صبحي حديدي


في مقالته الشهيرة تأملات حول المقصلة: المقاومة، العصيان، والموت ، والتي تعود إلي عام 1966، اعتبر الفيلسوف والأديب الوجودي الفرنسي ألبير كامو أنّ عقوبة الإعدام تقوّض حسّ التضامن الإنساني الوحيد غير القابل للنقاش، أيّ التضامن ضدّ الموت، ولا يمكن أن تُشَرْعِن تلك العقوبة إلا حقيقة مطلقة أو مبدأ أعلي واقعان ما فوق الإنسان . وأضاف، في نصّ ثمين لعلّ الإنسانية تحتاج إلي استعادته كلما فُرضت عقوبة إعدام: تنفيذ حكم الإعدام ليس مجرّد موت. إنه يختلف عن القضاء علي الحياة، كاختلاف معسكر الاعتقال عن السجن. إنه يضيف إلي الموت قاعدة، وإصراراً مسبقاً علنياً برسم الضحايا القادمين، وتنظيماً يشكّل في حدّ ذاته عذاباً معنوياً أشدّ رهبة من الموت. عقوبة الإعدام هي الأشدّ ارتكاباً عن سابق عمد وتصميم بين كلّ الجرائم، ولا يُقارن بها أيّ فعل إجرامي مهما كان محسوباً.

ذلك لأنه كي تصحّ المقارنة، ينبغي علي عقوبة الإعدام أن تُنزل بمجرم أعلم ضحيّته مسبقاً بموعد موتها الرهيب علي يديه، وتركها منذ تلك اللحظة تحت رحمة شهور طويلة من عذاب الانتظار.

مثل هذا الوحش لا نصادفه في الحياة اليومية .

وهكذا، فإنّ من واجب الديمقراطيّ العربيّ (سيما إذا كان يعيش تحت وطأة نظام استبدادي دكتاتوري مقيت) أن لا يبتهج لمرأي الدكتاتور العراقي صدّام حسين معلّقاً علي مشنقة، لسبب جوهري أوّل يسبق سلسلة الأسباب الأخري المشروعة بدورها: أنّ الإعدام نُفّذ في زمن احتلال عسكري، والمحاكمة كانت مهزلة، والتوقيت محمّل بمدلولات دينية وطائفية مستنكرة... علي الديمقراطي العربيّ أن يرفض عقوبة الإعدام في حدّ ذاتها، للاعتبارات الفلسفية والحقوقية التي يسوقها كامو أعلاه، من جهة أولي؛ ولاعتبارات تخصّ موقع الإنسان في النظام الديمقراطي، بصرف النظر عن طبيعة التناسب المطلوبة بين ضخامة الجريمة وشدّة العقاب، من جهة ثانية؛ ولأنّ النظام الديمقراطي لا يستبدل بربرية الدكتاتور بأخري ما تزال بربرية حتي بعد إخضاعها لعمليات دمقرطة علي أيّ نحو، من جهة ثالثة.

وهكذا، أيضاً، لا يليق يالديمقراطي العربي أن يردّد الكليشيه الشائعة: لقد لقي الطاغية جزاء وفاقاً علي أفعاله، وذاق ما كان يسوم الناس من عسف وتنكيل! الديمقراطية، في المسائل الحقوقية والقانونية باديء ذي بدء، ينبغي أن تقدّم البديل ـ النقيض للدكتاتورية، لا البديل ـ المثيل الذي يتطابق في الشكل مع القديم، ولا يختلف في المحتوي إلا باختلاف هوية الضحية بين مناضل ومستبدّ، وما يقترن بهذا الاختلاف من تباين صارخ في الحكم الأخلاقي علي مآثر المناضل وقبائح المستبدّ. هذا إذا وضع المرء جانباً حقيقة أنّ السلطات التي حاكمت الدكتاتور وأعدمته، علي هذا النحو العلني الشائن أو علي أيّ نحو آخر محتشم مستتر، ليست مؤهلة للنيابة عن شعب تساهم يومياً في ذبحه وتفتيت وحدته ونهب ثرواته وتقسيم أراضيه. ومن حيث الحرص علي أرواح المواطنين، وفي وجهة أخري لتنفيذ أحكام الإعدام الجماعية هذه المرّة، ليست الميليشيات المذهبية التي يسكت رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي عن ممارساتها أقلّ بطشاً بالعباد من مــفارز النظام السابق وإعدامات الدجيل.

وثمة، هنا، تفصيل سياسي جوهري ينبغي أن لا يغيب البتة عن أيّ نقاش حقوقي يخصّ عقاب صدّام حسين تحديداً، هو التالي: إذا كان الدكتاتور هو المسؤول، مباشرة أو بحكم منصبه، عن آلاف الجرائم بحقّ أبناء الشعب العراقي بمختلف فئاته ومذاهبه ومشاربه، فإنّ الغالبية الساحقة من تلك الجرائم نُفّذت حين كان يحظي بدعم صريح قويّ من قوي الاحتلال ذاتها (الولايات المتحدة وبريطانيا خصوصاً) التي أتاحت اليوم إنزال عقوبة الإعدام به، والتي سكتت تماماً عن جرائمه في حينه، وكانت بذلك تشجّعه علي الإيغال فيها أكثر. ومن المشروع تماماً أن يري المرء في تسليم صدّام إلي حكومة المالكي لإعدامه علي هذا النحو المتعجّل، وقبل استكمال المحاكمة الأهمّ التي تخصّ مذبحة حلبجا، تواطؤاً أمريكياً صريحاً علي وأد الأسرار الرهيبة التي كان مرجحاً أنّ طاغية العراق سيكشفها تباعاً، خصوصاً بصدد التعاون الأمريكي والألماني في إنتاج الغازات السامة التي قُصف بها الأكراد.

وليس بغير دلالة مبررة أنّ معظم التغطيات الصحفية الغربية لإعدام صدّام اتفقت علي إعادة نشر صورة فوتوغرافية واحدة محدّدة، هي صورة الرئيس العراقي السابق وهو يستقبل دونالد رمسفيلد، مبعوث الرئيس الأمريكي رونالد ريغان آنذاك ووزير الدفاع في حقبة احتلال العراق وحتي أسابيع قليلة خلت. وللتذكير، تلك واقعة جرت أواخر كانون الأوّل (ديسمبر) 1983 كما هو معروف، ومهّدت الطريق لاستئناف العلاقات الدبلوماسية العراقية الأمريكية التي قُطعت بعد حرب 1967، وكانت زيارة رمسفيلد الثانية إلي بغداد (بعد 12 يوماً فقط، وفي اليوم الأوّل من سنة 1984)! قد حملت ما يشبه الموافقة الأمريكية علي استخدام صدّام كلّ الأسلحة المحرّمة دولياً ضدّ إيران، وبالتالي استخدامها ضدّ الأكراد سواء بسواء.

محتوي التواطؤ الامريكي جليّ تماماً، بل هو أشدّ جلاء من أي توصيف خارج مفرداته المنطقية الظاهرة: لقد وقع صدّام حسين في قبضة الاحتلال العسكري الأمريكي وليس السلطات المدنية العراقية، ولهذا فإنه كان أسير حرب وتوجّب أن يخضع لأعراف اتفاقية جنيف، التي تحرّم إصدار عقوبة الإعدام بحقّ الأسير. أمّا إذا سُلّم إلي السلطات العراقية، فإنه سوف ينقلب علي نحو فوري وآلي إلي مجرم حرب، لا تنطبق عليه عقوبة الإعدام فحسب، بل قد يفكّر بعض العراقيين في تمزيق جسده إرباً إرباً كما ألمح حاكم العراق السابق، الأمريكي بول بريمر. وكانت المعادلة توحي بالميزان التالي: السلطة الأولي (الاحتلال) متمدّنة وحضارية وملتزمة بالعهود الدولية، والسلطة الثانية؟ العكس تماماً، كما ينبغي أن يدلّ المنطق البسيط، وكما أشارت تصريحات مختلف رجالات هذه السلطة ، من إياد علاوي إلي إبراهيم الجعفري إلي نوري المالكي.

وبالفعل، لقد نفض الأمريكيون أيديهم سريعاً من هذه البربرية الجديدة (التي يطلقون عليها، في سياقات أخري، صفة دمقرطة العراق!)، سواء بلسان السفير الامريكي زلماي خليل زاد، أو الناطق باسم الجيش الأمريكي، أو حتي الرئيس الامريكي الذي تجاهل الإجابة عن سؤال بخصوص الإعدام. رئيس الوزراء البريطاني توني بلير التزم الصمت المطبق (هو الذي كان قد وافق وزير خارجيته السابق، جاك سترو، علي رفض عقوبة الإعدام)، والألمان جنحوا إلي بعض التأتأة التي لا تفيد أيّ معني، وبدا رئيس الوزراء الإيطالي رومانو برودي الوحيد الديمقراطيّ حقاً في إدانته للإعدام من جهة، وإعلانه عزم إيطاليا إطلاق حملة دولية لإلغاء هذه العقوبة نهائياً، من جهة ثانية.

وعشية القبض علي صدّام حسين، أواخر العام 2003، رفع موفق الربيعي، عضو مجلس الحكم العراقي آنذاك ومستشار الأمن القومي حالياً، إصبع الإتهام في وجه الجميع... تقريباً: هذه المحاكمة ستكون محاكمة العصر، وستنكشف فيها أسرار، وسينكشف رؤساء دول وملوك ومثقفون وسياسيون ونوّاب موجودون الآن في الحكم أو خارج الحكم، في المعارضة أو في الحكم، في الدول العربية والاسلامية والشرقية والغربية .

والحال أنّ الربيعي عمد إلي هذه السفسطة البلاغية المسطحة لأنه (هو الذي يعرف أنه قد يكون في عداد المنكشفين جرّاء اعترافات صدّام حسين، في أسفل اللائحة علي الأرجح) كان يدرك أنّ السجين هذا لن يُمنح فرصة فضّ الأختام عن خزائن أسراره.

وكما كانت الحال ساعة إخراجه من الحفرة العنكبوتية الشهيرة، يظلّ من الأجدي للمرء أن يقارب إعدام صدّام حسين من زاوية معاكسة لتلك التي تقول: ما الذي سيحدث الآن بعد دفن الدكتاتور؟ ، بتلك التي تسأل: ولكن... ما الذي لن يحدث بعد إعدامه ؟ علي سبيل المثال، نعرف أنّ المقاومة العراقية لن تتوقف، بل ثمة عشرات المراقبين ممّن يساجلون بأنها سوف تشتدّ وتتّسع وتأخذ محتوي جديداً، متحرّرة أكثر من شبهة قيادة صدّام لها، تماماً كما حدث بعد القبض علي الرجل.

ولأنّ شبح صدّام حسين لم يكن السبب في مشاحنات القوي العراقية التي غطّت الإحتلال وتحالفت معه، عربية كانت أم كردية، سياسية المشارب أم مذهبية الولاءات أم قائمة علي مبدأ الإرتزاق الرخيص وحده، فإنّ خروج صدّام حسين من حفرة العنكبوت إلي الأسر الأمريكي وصولاً إلي حبل المشنقة لا يعني أن تلك القوي ستتوقف عن ممارسة الصراعات الرخيصة والخيانات الصغيرة وحروب تحسين المواقع. ولسوف يشتدّ أوار الحرب الأهلية، والمذهبية والطائفية، وستغذّيها أحقاد قديمة وأخري جديدة ناجمة عن الاحتلال العسكري وفشل العملية السياسية وانحطاط الوحدة الوطنية وسياسات النهب والفساد وبؤس الواقع المعيشي والأمني لملايين العراقيين، فضلاً عن تلك الأحقاد الخاصة التي استولدتها واقعة إعدام صدّام ذاتها بين السنّة والشيعة.

وليس في وسع المرء، هنا، إلا أن يقتبس استطلاع الرأي المثير الذي أجراه، قبل شهر واحد فقط، مركز العراق للبحوث والدراسات الاستراتيجية ، وبيّن أنّ غالبية 90% من العراقيين تعتقد أنّ وضع البلاد الراهن أسوأ مما كان عليه في عهد صدّام حسين، مقابل 5% فقط رأوا العكس؛ و89% علي يقين أنّ الوضع السياسي انحطّ، و79% يرون الحال ذاتها علي صعيد الإقتصاد، وأمّا في ما يخصّ التدهور الأمني فإنّ النسبة تبلغ 95% ما يلفت الإنتباه، أكثر، أنّ نسبة 50% ممن شملهم استطلاع الرأي صنّفوا أنفسهم في خانة المسلمين : 34% شيعة، و14% سنّة!

كذلك نعرف أن إعدام صدام حسين لن يوقف العمليات الإرهابية، أياً كانت طبيعتها وأدواتها، ضدّ الأهداف الأمريكية والبريطانية، في العالم بأسره ربما، ولهذا لم ينقلب الحدث إلي مناسبة أمريكية رسمية للاحتفال بتسجيل نصر من أي نوع في ما يسمّيه البيت الأبيض بـ الحرب علي الإرهاب . أهل الإدارة أوّل وأفضل مَنْ يعرف أنّ صدّام حسين لم يكن تفريعاً من أسامة بن لادن، وأنّ هذا الأخير ما يزال حيّاً يُرزق، طليقاً، قادراً كما يبدو علي الحركة والتخطيط والفعل. وإلي جانب العراق، وساحات أخري أكثر خفاء هنا وهناك في العالمين العربي والإسلامي، لعلّ البيت الأبيض ينتظر موعده القادم الوشيك مع بن لادن، في... صومالستان!

ونعرف، أخيراً، أنّ إعدام صدّام حسين لن يشدّ من عزيمة جيش الإحتلال الأمريكي، ولن يبدّل كثيراً من سياسات البيت الأبيض لصالح شعب العراق، بل إنّ العكس هو المنتظَر، شبه الأكيد: الرئيس الأمريكي سوف يطالب الكونغرس بالموافقة علي إقرار 97,7 مليار دولار للإنفاق علي الحرب في العراق وأفغانستان، والكونغرس الأمريكي (الديمقراطي الآن، للإيضاح!) لن يساجل كثيراً ضدّ الطلب لأنّ انتخابات 2008 تفرض علي الديمقراطيين مراعاة شركات صناعة السلاح العملاقة، المستفيدة الأولي من هذه المبالغ ومن كلّ حرب خاضتها أو تخوضها الولايات المتحدة. وثمة فارق كبير بين أن تعارض سياسة جورج بوش في العراق أثناء الحملات الإنتخابية، وأن تحوّل هذه المعارضة إلي عصيّ تعيق عجلة الآلات في مصانع السلاح، ودورة المال والأعمال استطراداً!

وكان رمسفيلد هو القائل: الإنسان كالسلحفاة، لا ينخرط إلا إذا مدّ رأسه . أو لعلّه ينخرط في المأزق ـ المستنقع أكثر إذا أطاح برأس خصمه علي نحو يحوّل الأخير من مستبدّ إلي... شهيد!