غسان الإمام


كل عيد وانت بخير. كل سنة وانت طيّب. بأية حال عدت يا عيد؟! الصورة قاتمة. المستقبل مظلم. لكن لا يأس مع الأمل، مع إرادة الحياة. تفاءلوا بالخير تجدوه.

رغب إليّ صديق فرنسي يتكلم العربية بطلاقة أن يحضر صلاة الجمعة. في مسجد باريسي كبير، تربعت واياه نستمع بخشوع الى خطيب الجمعة. يا للهول! أطبقت السماء على الأرض. الخطيب يبشر المؤمنين بالموت. ستموتون. قد تموت وأنت خارج. لعلك تموت وأنت داخل. قد تموت في الصباح. سوف تموت عندما يأتي المساء!

دهش الصديق. همس مداعبا. قال سأخرج من المسجد الى شركة دفن الموتى. رحت أتطلع الى وجوه السامعين. وجوم كئيب ينمّ عن نفوس منقبضة. خرج المصلون بعد أداء الصلاة وكأن على رؤوسهم الطير (التطيُّر في اللغة التفاؤل والتشاؤم).

ما زال المسجد، وليس التلفزيون والصحافة والانترنت، المنبر الاعلامي الأول. خطيب المسجد سفير الاتصال مع الناس. صعود الهبة الدينية وتسييس الدين يتطلبان في الخطيب ثقافة واسعة ومتنوعة. الأهم ان يكون عميق الفهم للنفس الانسانية ولهموم الحياة اليومية المعاصرة. أعني أن يعرف كيف يبشر الناس بالتفاؤل، بالفرج، بالخير.

الموت حق. لكن لو عشنا في انتظاره كما يفيدنا الخطيب لما تقدم العلم. لما ذهبت أنت الى العمل، ولما اجتهد الإنسان في تسخير قوى الطبيعة والمادة لبناء هذه الحضارة المذهلة. صحيح انها حضارة بلا قلب، لكننا ننعم بنتاجها، بفكرها، بأدواتها وابتكاراتها.

نريد في المسجد ثقافة الحياة، لا ثقافة الموت. ثقافة الحياة قدمت العرب الى العالم رُسُلَ علم وفكر وتقدم في القرون الهجرية الأولى. بعد ذلك، أشاعت ثقافة الموت القدرية والكآبة والجمود. مات العرب ألف سنة عن الحياة، عن الاكتشاف والابتكار والعمل والعلم والفكر والعمران.

النظام العربي أدرك منذ مدة تخلف خطيب المسجد وخطره الفكري والتلقيني على جمهور أمي أو شبه متعلم. وزارات الأوقاف والشؤون الدينية كَفَّتْ ألسنة ألوف الخطباء. هذا لا يكفي. إعداد الخطيب يحتاج الى مدرسة تدريبية تدرس ثقافة الحياة إلى جانب ثقافة الدين: مناهج في علم النفس الاجتماعي، وفي فن العلاقات العامة والتواصل مع الناس. أمر طريف في غاية التناقض. تبث الإذاعات والتلفزيونات خطب خطباء المساجد الكبرى. يدعون إلى التسامح، ثم يكفرون العالم في خطبة واحدة!

التلفزيون يقترب من المسجد كأداة إعلام جماهيرية. التفاخر بالسبق الإخباري بات يتقدم على المصلحة القومية والاجتماعية! نشكو من تقلص مساحة الانفتاح الديني والاجتماعي. مع ذلك، أصبح الظواهري نجما تلفزيونيا ينافس نجوم الغناء الاستعراضي. تسأل عن السبب. يقولون لك: laquo;مجرد حرية التعبير عن الرأي الآخرraquo;. هل حرية الرأي الآخر تروِّج لفكر التكفير والانغلاق، وتأليب المذهب على المذهب والطائفة على الطائفة، وتجنيد شباب العرب للموت في مجاهل الصومال وافغانستان؟!

حرية التعبير لا تفرض بالضرورة بث الظواهري نصا وصورة وصوتا. هناك في الإعلام فن اسمه الاختصار. لو كنت محل الشيخ وزير الخارجية ومفلسف السياسة القطرية، لأمرت بصياغة خطبة الظواهري في خبر مستكمل لشروط الإخبار والحياد الإعلامي.

أيضا، كم كنت أتمنى على القيادة السياسية القَطَرية ان تدرك باكرا وسلفا مدى الإساءة للعرب وللدين أمام العالم في بث laquo;حفلاتraquo; قطع الرؤوس في العراق. حقا، كسبت laquo;الجزيرةraquo; السبق الإعلامي. وخسر العرب السمعة، حتى ولو كانوا غير مسؤولين عن برابرتهم قُطَّاع الرؤوس.

أيضا وأيضا، ما الفائدة في هذه المشاهد المسرحية للحوار؟ يأتي معد البرامج بساسة وسادة من الرتبتين الثالثة والرابعة. يطرح القضية. تغلي الجماجم. يتصاعد السباب والشتائم والتهديدات. تنفجر حمى الانفعالات والغرائز المذهبية والطائفية والعرقية. يشعر معد البرنامج بالزهو. وقعت الواقعة. نجح البرنامج. نال المخرج رضا القيادة، وحصل على الصيت الذائع والزائف.

هل هذا هو الحوار الإعلامي الهادف، أم هو التفجير المسرحي الميلودرامي للغرائز المذهبية والسياسية؟ بل هل هذه هي أداة الرفع الوحيدة لوضع بلد بحجم طابع البريد على خريطة العالم السياسية؟! مجرد سؤال اتوجه به الى ضمير القيادة السياسية القَطَرية، مع التأكيد على أني كنت دائما خارج اطار المساجلات بين دول وتلفزيونات متنافسة إعلاميا وسياسيا. مجرد سؤال بريء ومخلص من كاتب وصحافي يعرف معدو البرامج اعتذاره الدائم عن المشاركة في الحوارات التلفزيونية لهذا السبب، الابتذال والإسفاف في أدب الحوار.

الصورة الثابتة نافست الكلمة والخبر في الصحافة. مع الثورة الالكترونية، غدت الصورة المتحركة سيدة الخبر في الاعلام التلفزيوني. في احدى الصحف التي عملت فيها في لبنان، أذكر انها كانت تتعمد تركيز العدسة على وجوه قتلى حوادث السيارات المفجعة. حاولت أن أبعد العدسة عن المنظر المقزز والعابث برهبة بالموت. لكن عبثا. كان جواب الناشر أن هذه الصور laquo;بياعةraquo; للصحيفة.

في الإسلام، إكرام الميت بترحيله. الشهيد الفلسطيني له كرامة تنأى به عن حمله مكشوفا، واستخدامه سلعة للدعاية لحزب أو منظمة. في العراق، حمل الأميركيون صدام وأعداءه في طائرة واحدة من المعتقل الى المشنقة. تم تصوير إعدامه بعدسات وهواتف وزراء ومسؤولين في حكومة المالكي.

وزعت الصور بلا حياء وخجل على نطاق عالمي، ليس حقدا وتشفيا من صدام فحسب، وإنما لإهانة مشاعر سنة العراق والعرب. كان رد الفعل إدانة عالمية لحكومة الميليشيات.

إذا لم يكن الواجب إعدام صدام باحترام كرئيس أسبق، فكان الواجب احترام رهبة الموت. حمل العراقيون يوما الى عبد الناصر خنصر خصمه نوري السعيد الذي سحلت جثته ومزقت إربا إربا في شوارع بغداد. غضب عبد الناصر غضبا شديدا. أعطى الزوار درسا. أمر بدفن الخنصر باحترام. هكذا يتصرف الكبار الكبار.

غضب المالكي على العرب الذين ثاروا على المشهد المصور أكثر مما حزنوا على صدام. بدلاً من الاعتذار، راح المالكي يهدد الدول العربية بقطع العلاقة معها! كأن العراق جمهورية موز يجوز لحكامها التآمر مع واشنطن على حياة الناس فيها. من هالك إلى laquo;مالكraquo;. الى قباض الأرواح، ولا يجوز للعرب أهل العراق وأشقائه التعبير عن تأثرهم بما يحدث فيه.

رئيس حكومة الميليشيات يهدد العرب بقطع العلاقة الديبلوماسية، فيما يطوف وزير خارجيته العواصم العربية لإرسال سفرائها إلى بغداد! نعم مات صدام. يذهب الى لقاء كل الطغاة الذين سبقوه. لكن المالكي والصدر والحكيم وlaquo;آياتraquo; النجف الذين أجازوا القتل في أيام العيد الفضيلة، سيعيشون ما تبقى لهم من عمر في خوف دائم من الثأر والانتقام.

شكرا لإعدام صدام! فقد عرى الحقد الفارسي على العرب. فضح انتماء حكومة الميليشيات في بغداد. أسقط أسطورة حزب الله في شارع عربي كان مضللا ومخدوعا.

الظلام لا يبدد الأمل. لا يلغي التفاؤل. لا ينهي ثقافة الحياة. لا يقتل الإرادة. ما زال في العرب رمق حياة. يثور. يغضب. يرضى. يهدأ. ينخدع... لكنه دليل على أمة ترفض الموت.

عزيزي القارئ، كل عيد وأنت بخير. كل سنة وأنت طيب.