الأربعاء 10 يناير 2007
د. عبدالحميد الأنصاري
صدام حسين، أول حاكم عربي على مر التاريخ الإسلامي، يحاكمه شعبه، فتصدر quot;المحكمة الجنائية العلياquot; العراقية، حكمها بالإعدام (5/11/2006) ويتأيد بمصادقة quot;محكمة التمييزquot; (26/12/2006)، ويتم تنفيذ الحكم صبيحة عيد الأضحى المبارك.
quot;صدامquot; هو الحاكم العربي quot;الوحيدquot;- ولعله الأخير- الذي يحكم عليه، وهو quot;الوحيدquot; أيضاً الذي يعدم يوم فرحة المسلمين. ولكن يجب ألا ننسى أنه حاكم quot;استثنائيquot; في أمور كثيرة، فهو quot;الوحيدquot; الذي شنّ حربين عدوانيتين، وهو quot;الوحيدquot; الذي استخدم الكيميائي ضد شعبه، وهو quot;الوحيدquot; الذي ارتبط اسمه بالمقابر الجماعية، وهو quot;الوحيدquot; الذي قتل الأئمة والمراجع الدينية، وهو quot;الوحيدquot; الذي تسبب في قتل أكبر عدد من البشر الأبرياء، وهو quot;الوحيدquot; الذي حكم شعبه بالحديد والنار ثلاثين سنة وفتك بزملائه، وهو quot;الوحيدquot; الذي نقض المواثيق التي وقّعها. وأخيراً هو quot;الوحيدquot; الذي بلغت به الجرأة ليكتب المصحف بدمه!
استثنائية quot;الحدثquot; فرع من استثنائية quot;الشخصquot;، وهي أيضاً آتية من تناقضها مع ثقافة سياسية سائدة تكرّس مبدأ quot;الطاعةquot; للحاكم وإن ظلم وجار واستبد وأهدر الثروات وأفسد في الأرض، فسلطان غشوم خير من فتنة قد تدوم، وأطع الحاكم ولو جلد ظهرك وأخذ مالك!
ومفاجأة quot;الحدثquot; بل وفاجعته، في أنها- أولاً- حصلت في يوم غير متوقع مما استفزّ المشاعر وأثار كثيراً من ردود الفعل المستنكرة. وثانياً أنها جاءت على خلاف التوقعات التي راهنت على تخفيف الحكم كورقة تفاوضية مهمة مع العشائر السنية المطالبة بالإفراج عن صدام مقابل دخولهم العملية السياسية، ونبذهم تأييد أعمال العنف (المقاومة) واستجابة لضغوط الاتحاد الأوروبي ومنظمات حقوق الإنسان الساعية لإلغاء عقوبة الإعدام.
ولكن الحكومة العراقية كانت لها حسابات أخرى، خيّبت كل التوقعات، إذ عمدت إلى تنفيذ الحكم صبيحة العيد، كهدية أو quot;عيديةquot; كبيرة تقدمها لملايين المفجوعين والمنكوبين والمتضررين من أهالي وأقرباء الضحايا الذين سقطوا على يد النظام السابق، متجاهلة كل الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية وحتى نصيحة السفارة الأميركية بالتأجيل.
تقول مريم الريس، المستشارة القانونية لرئيس الوزراء العراقي: quot;إن رئيس الوزراء كان قد قرّر أن بدء العام الجديد، وصدام ميت، يفوق كل الاعتبارات، بما في ذلك نصيحة السفارة الأميركيةquot;. ومما زاد من تأجيج المشاعر المستنكرة quot;الإخراجquot; السيئ للحدث الذي وصفه البعض بـquot;الغباء السياسيquot; وquot;العقلية الطائفية المريضةquot; وquot;الجريمةquot;. وإني إذ أتفهم مسوّغات الأكثرية التي انتقدت عملية quot;التوقيتquot; وquot;الإخراجquot; واستهجنتها، وأراها خطأ مزدوجاً، (إنسانياً) لعدم مراعاة المشاعر في يوم عيد، و(سياسياً) لأنه يفاقم عدم الاستقرار ويعوق المصالحة، وقد ترتبت عليها ثلاث نتائج سيئة:
1- الإنسياق الإعلامي وراء quot;التفسير الطائفيquot; للحدث وتضخيمه وإعطائه أبعاداً مذهبية استفزازية، مع أن quot;صدامquot; ليس رمزاً للطائفة السنية، فهو لا يمثل إلا نفسه المستبدة، بل هو المغذّي الأكبر للطائفية في العراق على امتداد (30) عاماً، وكان ضحاياه من كل طائفة ومذهب، كما أن هؤلاء الذين رقصوا حول الجثة quot;تشفياًquot; لا يمثلون عموم الشيعة، ولأننا-جميعاً- شعوباً وحكومات، طائفيون حتى النخاع، فالأقليات المذهبية لا زالت مهمشة في مجتمعاتنا، ولا زلنا نمارس تمييزاً سياسياً واجتماعياً ضدها، في المناهج التعليمية، وفي التشريعات، وفي الوظائف القيادية، فنحن نتحمل- كأكثرية سنية عربية- جانباً من المسؤولية عن تفشي ظاهرة الطائفية التي نستنكرها الآن.
2- الخلط غير المبرر، بين إدانة (التوقيت والتنفيذ) والطعن في شرعية quot;المحكمةquot; وquot;المحاكمةquot;، لأنها وقعت في ظل quot;المحتلquot; ولم تتوافر فيها ضمانات العدالة. بالنسبة للتوقيت فلا خلاف في انتقاده، ولكن المحاكمة توافرت فيها كل ضمانات العدالة، صحيح أنها لم تصل إلى مستوى المحاكمات الدولية، ولكنها- في تصوري- الأكثر عدالة من كل المحاكمات العربية للخصوم السياسيين على امتداد الساحة العربية، طوال نصف قرن وبخاصة تلك المحاكمات الاستثنائية التي أبتدعتها النظم الثورية.
لقد كان صدام في سجن خمسة نجوم؛ توافرت فيه كل أسباب الراحة والحماية، وكان في خدمته جيش من المحامين، وكانت جلسات المحاكمة التي بدأت في (19/5/2005) منقولة على الهواء وعلى امتداد (42) جلسة، حضرها عشرات الشهود والمراقبين، والمحكمة عراقية، قضاتها عراقيون، تشكلت وفق القانون الصادر من الجمعية الوطنية، ونص عليها الدستور والقانون الذي رسم الإجراءات الجزائية، قانون عراقي كان معمولاً به في عهد صدام، وقرارات الإدانة استندت إلى قانون العقوبات العراقي، والمحكمة طبقت صحيح القانون. فكل ما يقال عن عدم شرعيتها لا أساس له، وكونها في ظل quot;المحتلquot; أكثر ضمانة للعدل، لأن quot;المحتلquot; حريص على سمعته الدولية، ولأنه لو تُرك صدام لحظة لشعبه لمزقوه شر ممزق ولسحلوه وصلبوه ولم يُعرف له مدفن كما فعل هو بضحاياه، ولكن لأنه في حماية quot;المحتلquot; ضَمِن محاكمة عادلة ومزاراً يقصده أتباعه للنواح والترحّم. فلولا quot;المحتلquot; الذي يشتمونه- ليلاً نهاراً- ما أمكن إجراء محاكمة، ولفُعل بصدام ما فعله الحجاج بابن الزبير، وما فعله الوالي الأموي الذي ذبح quot;الجعد بن درهمquot; كالنعاج يوم عيد الأضحى وقال للمسلمين: quot;ضحّوا فإني مضحٍ بالجعدquot;!
المنطق السياسي للسلطة العربية لا يعرف قدسية لا للزمان ولا للمكان عند البطش بالخصوم، لقد ضرب الأمويون الكعبة بالمنجنيق، واستباحوا المدينة المنورة، وهو ما لم يجرؤ عليه عرب الجاهلية، كما يقول مفكرنا الدكتور محمد جابر الأنصاري.
3- التوظيف اللاعقلاني لمشاعر الجماهير، فلأن الإعدام تم في عيد أصبح الدكتاتور quot;بطلاً قومياًquot; وquot;مجاهداًquot;... وهكذا تُبتذل المفاهيم السياسية السامية منذ أن أصبح الزرقاوي quot;شهيداًquot; والمفجرون أنفسهم quot;شهداءquot;، ووصل الاستخفاف بالعقول أن رئيس حكومة عربية رأى فيه quot;إهانة وإذلالاًquot; للعرب والمسلمين! لا أعرف ما وجه الإهانة في الاقتصاص ممن أجرم في حق شعبه وجيرانه؟! quot;الإهانةquot;- حقاً- هي في صمود الطغيان الذي ينتهك الحرمات ويدوس الكرامات ويبدد الثروات ويتحكم في المقدرات. ويحق لنا أن نتساءل: ماذا أصاب العقل العربي؟! هل صدمة quot;التوقيتquot; زلزلت كيانه وأفقدته الرشد؟!
وإذا كان quot;طارق الحميدquot; اعتبر quot;التوقيتquot; جريمة، فإن تحويل quot;صدامquot; إلى بطل شهيد هو الجريمة الأعظم! إن الإخراج البشع لإعدام صدام يجب ألا ينسينا صورة الدكتاتور الأبشع.
وفي النهاية: إذ أحترم حزن عائلة وعشيرة صدام وأتفهم مجالس العزاء التي أقامها أنصاره في العديد من الدول العربية، فليس مفهوماً أو جديراً بالاحترام مجلس العزاء الذي أقامته quot;لجنة الحرياتquot; بنقابة المحامين في مصر! صدام صفحة سوداء في التاريخ وقد انطوت، وهو لا يستحق أن نحزن عليه.
التعليقات