16 يناير 2007


فهمـي هـويـــدي


إذا ضمنت لي بيئة سياسية مماثلة لتلك التي توفرت في فرنساrlm;,rlm; فإنني أبصم لك بأصابعي العشرة علي تأيد محاكاتها في اطلاق انتخاب رئيس الجمهوريةrlm;,rlm; دون تحديد فترة زمنية لولايتهrlm;.rlm; أما قبل ذلك فاسمح لي أن أعبر عن الخوف والقلقrlm;,rlm; لأن الإطلاق في هذه الحالة يغدو مغامرة ترجح فيها الندامة علي احتمالات السلامةrlm;.rlm;
rlm;
(1)rlm;
الرئيس جاك شيراك يفكر في الترشيح لولاية ثالثةrlm;.rlm; الخبر ليس مؤكداrlm;,rlm; لكنه عادي في فرنساrlm;,rlm; لأنه إذا صح فلن يعني أكثر من أنه سيدخل حلبة السباق مع منافسين أقوياء قادرين علي مناطحته وربما هزيمتهrlm;.rlm; ولا قلق من هذه الناحيةrlm;,rlm; ليس فقط لأن نزاهة الانتخابات لا شك فيهاrlm;,rlm; ولا لأن في البلد احزابا قوية لها مرشحون بوسعهم تحدي الرئيس وتوفير اكثر من بديل لهrlm;.rlm; ولكن أيضا لأن في فرنسا مجتمعا بدرجة عالية من الثقة والعافيةrlm;,rlm; التي توفرت بالتراكم في مناخ من الحرية لا سقف لهrlm;.rlm; مجتمع مستنفر علي الدوامrlm;,rlm; يشهر الغضب ولا يبلعه أو يختزنهrlm;,rlm; وفي كل مناسبة للاحتجاج مستحقةrlm;,rlm; فإن ملايينه تنزل إلي الشارعrlm;,rlm; ولا تردد في شل حركتهrlm;,rlm; كأن الجميع واقفون علي الأبواب طول الوقت ينتظرون لحظة الاشارةrlm;.rlm; وهم واثقون في قدرتهم علي الضغط علي الحكومة واجبارها علي احترام رغبتهم والامتثال لأمرهمrlm;.rlm;
في الطبع الفرنسي أن هذا البلد لا يستطيع أن يعيش بغير أمرينrlm;,rlm; الفلسفة والثورةrlm;.rlm; الفلسفة تحتل حيزا كبيرا من عقل المثقفينrlm;,rlm; والثورة هي ديدن الجماهير وعنوان الشارعrlm;.rlm; حتي أننا لا نبالغ اذا قلنا انها بلد الاضرابات بامتيازrlm;.rlm; هكذا تحدث عنها أميل زولا عقلها الكبيرrlm;.rlm; وقد أصبحت تلك الاضرابات محفورة ليس فقط في تاريخ البلدrlm;,rlm; وإنما ايضا علي وجه العاصمة حتي صارت جزءا من قسماتهاrlm;,rlm; وهو ما تدل عليه الساحة المواجهة لقصر بلدية باريس المنيف التي اسمها الحقيقي ميدان الاضرابrlm;(Placedegreve).rlm;

أرأيت الذي جري في شهر ابريل من العام الماضيrlm;(2006)rlm; حين قررت الحكومة اصدار قانون جديد للعملrlm;,rlm; أيدته الجمعية الوطنيةrlm;,rlm; ولكن المجتمع رفضه وقاومهrlm;,rlm; واصر علي الغائهrlm;,rlm; فخرج إلي الشارع ثلاثة ملايين شخص في مائة مدينة فرنسية بينهم طلابrlm;40rlm; جامعة احتجاجا علي ذلك القانونrlm;.rlm; بل أن هيئة السكك الحديدية خفضت اسعار تذاكر السفرrlm;,rlm; لكي تتيح للجماهير في كل مكان أن تتوافد علي العاصمة وتشترك في التظاهر ضد الحكومةrlm;.rlm; وقد تحقق لهم ما ارادوا في نهاية المطافrlm;.rlm;
هذه صفحة واحدة من سفر ضخم يسجل حيوية المجتمع الفرنسي وعافيتهrlm;,rlm; الذي اطاح بشارل ديجول محرر فرنسا من الاحتلال النازيrlm;,rlm; ودفعه إلي الاستقالة من منصبه عامrlm;69.rlm; بعد ما رفضت الجماهير التعديلات الدستورية التي اقترحهاrlm;,rlm; وهزت اركان نظامه ثورة الطلبة الشهيرة التي وقعت عامrlm;68.rlm; وهو ذاته المجتمع الذي خرج في مظاهرات استمرتrlm;40rlm; يوما معلنا رفضه للتعديلات التي ادخلها علي قانون الضرائب رئيس الوزراء آلان جوبيهrlm;,rlm; ثم اسقطه بعد ذلك في انتخابات عامrlm;97.rlm; هو ايضا الذي رفض توسلات رئيس الجمهورية جاك شيراك للموافقة علي دستور الاتحاد الأوروبيrlm;,rlm; وهزم حزب الرئيس في الانتخابات المحلية والاقليميةrlm;,rlm; وتفجرت فيه ثورة الضواحي علي الاهمال والتهميشrlm;(rlm; في عامrlm;2005)rlm; مما ادي إلي احراق حوالي عشرةآلاف سيارةrlm;.rlm; ولم تهدأ الثورة إلا حين اعترف شيراك وحكومته بالتقصير في حق أولئك السكانrlm;,rlm; ووعدت الحكومة باتخاذ خطوات عملية لعلاج تقصيرهاrlm;.rlm;

rlm;(2)rlm;
الآن نعرف أن شعبية الرئيس شيراك تراجعت أخيرا بنسبةrlm;2%,rlm; ووصلت إليrlm;36%rlm; فقطrlm;.rlm; ونعرف أنrlm;55%rlm; من جماهير الشعب الفرنسي تعتبره رئيسا جيدا ومع ذلك فإن أغلبهم يرفضون ترشيحه للرئاسة المقبلةrlm;(rlm; الانتخابات تجري في ابريلrlm;2007)rlm; ـ ونعرف أنrlm;39%rlm; من الناس يعتبرونه رئيسا سيئاrlm;,rlm; وأنrlm;49%rlm; يرغبون في اقالة رئيس وزرائه دوفيلبان من منصبهrlm;.rlm;
نعرف أيضا أنه حين دفع نقدا قيمة تذاكر السفر ليقضي عطلته مع أسرته قبل عامينrlm;,rlm; فإن محققا سأله من اين له هذه الأموال السائلةrlm;,rlm; لأن القانون في محاربته لمحاولات غسيل الأموال يشترط أن يتم الدفع ببطاقات الائتمان عند حدود معينةrlm;.rlm;

اكثر من ذلكrlm;,rlm; فإن الجميع يعرفون تفاصيل الحالة المالية للرئيسrlm;,rlm; أملاكه ورصيده في البنك هو وزوجتهrlm;,rlm; وقيمة الضرائب التي يدفعهاrlm;.rlm; وهو البيان الذي نشرته الصحف الفرنسيةrlm;,rlm; وسبق أن اشرت إليه في مقام آخرrlm;.rlm; ومنه عرفنا أن قيمة ثروته لا يتجاوزrlm;1.6rlm; مليون دولارrlm;.rlm; إذ لديه شقة في باريس مساحتهاrlm;114rlm; مترا مربعاrlm;,rlm; تملكها في عامrlm;82,rlm; وقدرت قيمتها بـrlm;400rlm; ألف دولارrlm;.rlm; وقصر في ساران بوسط فرنسا اشتراه عامrlm;69,rlm; وقدر ثمنه بمبلغrlm;240rlm; ألف دولارrlm;.rlm; ومنزل ريفي في لوريز ورثته زوجته عامrlm;73rlm; ـ ثمنه الآن نحوrlm;80rlm; ألف دولارrlm;.rlm; وهو وزوجته يملكان قطع اثاث وتحفا فنية قدرت شركات التأمين قيمتها بما يعادلrlm;150rlm; ألف دولارrlm;.rlm; أما رصيد الرئيس في البنك فهوrlm;69rlm; ألف دولارrlm;,rlm; ولزوجته رصيدها الخاص بقيمةrlm;37rlm; ألف دولارrlm;.rlm; وآخر مبلغ دفعه الرئيس للضرائب عن تلك الثروة هوrlm;2741rlm; دولاراrlm;.rlm;
ان مجتمعا بهذه القوةrlm;,rlm; يتعامل مع الحرية والشفافية بحسبانها خبزا يوميا وحقا اصيلاrlm;,rlm; لا يخشي عليه من تغول السلطة ولا يقلقه عدم تحديد المدة التي يقضيها في منصبه صاحب الاليزيهrlm;.rlm; لأن ثقته شديدة في أنه يستطيع أن يقصيه عن موقعه وقتما شاءrlm;.rlm; ولديه من الخبرة والثقة ومن الوسائل ما يمكنه من تحقيق مرادهrlm;.rlm; وكانت النتيجة أنه من الناحية العملية لم يستطع أي رئيس فرنسي في تاريخ البلاد الحديث أن يتجاوز المدتينrlm;.rlm;

rlm;(3)rlm;
البعض يدق الاجراس في مصر الآن منبها إلي أن القانون ليس معزولا عن التاريخrlm;,rlm; ومحذرا من استنساخ النصوص القانونية وزرعها في غير المجتمعات التي صاغتهاrlm;.rlm;
وللدكتور حسام عيسيrlm;,rlm; استاذ القانون بجامعة عين شمس بحث نشر في صحيفة العربي مؤخراrlm;(rlm; عددrlm;1/7)rlm; كرسه لمعالجة هذه النقطةrlm;,rlm; وهو ينطلق من تخطئة اختزال أزمة الواقع المصري في الجانب القانونيrlm;,rlm; ومن ثم محاولة التصدي لتلك الأزمة من خلال التعديل الدستوريrlm;.rlm; ويخلص إلي التحذير من الوقوع في ذلك الشركrlm;.rlm;

في رأيه أن فاعلية القانون لاتعتمد فقط علي ماتتمتع به قواعده من تناسق داخلي ودقة في الصياغةrlm;,rlm; وانما هي نتاج لتفاعل البيئة القانونية مع البنية الاجتماعيةrlm;,rlm; وهو ما يفسر لنا ان نفس القاعدة القانونية اذا ادمجت في بني اجتماعية مختلفةrlm;,rlm; فانها تؤدي بالضرورة وظائف اجتماعية مختلفةrlm;,rlm; كما تنتج تلقائيا أثارا اجتماعية مغايرةrlm;.rlm; ضرب ذلك مثلا من تاريخ القانون المصري الحديثrlm;,rlm; حين تم الاصلاح التشريعي والقضائي في الثلث الأخير من القرن التاسع عشرrlm;,rlm; وبمقتضاه حلت المحاكم المختلطة محل المحاكم القنصلية التي اقامتها الدول صاحبة الامتيازات الاجنبية السائدة في البلادrlm;.rlm;
هذه الخطوة جاءت نتيجة لجهود مشتركة من قبل الدولا المصرية وممثل رأس المال الاجنبي المهيمن علي الاقتصاد المصريrlm;,rlm; وعلي رأسهم فرديناند ديليسبسrlm;,rlm; والتقنيات التي استحدثت في تلك الفترة كانت استنساخا حرفيا للتقنيات الفرنسية التي وضعها نابليون بونابرت في بداية القرن التاسع عشر في فرنساrlm;,rlm; وجسدت وقتذاك اعلي صور العقلانية القانونيةrlm;,rlm; كما كانت الاداة القانونية للرأسمالية الفرنسية في بناء قوتها الاقتصادية الهائلةrlm;.rlm; إلا أن ذلك الأثر لم يتحقق في مصرrlm;.rlm; لأن التقنيات الجديدة حين ادمجت في البنية الاجتماعية المصريةrlm;.rlm;فلم تحقق نفس النتيجة التي شهدتها فرنسا اذ لم تكن اداة لأية نهضة اقتصادية في مصرrlm;,rlm; وانما افرزت نتيجة معاكسة تماماrlm;,rlm; ادت إلي احكام قبضة رأس المال الاجنبي علي باقي قطاعات الاقتصاد المصريrlm;,rlm; وإلي زيادة حدة ادماج مصر في السوق الرأسمالية العالمية كوحدة تابعةrlm;.rlm;

هذه الفكرة سلط عليها المستشار طارق البشري أضواء اقوي في كتابه الأخير مصر بين التفكك والعصيانrlm;,rlm; حين تحدث عن الدستور وقال انه ينظم ماهو قائم ولاينشيء وضعا جديداrlm;,rlm; فدستورrlm;1923rlm; حين اتاح قدرا من التداول في السلطةrlm;.rlm; فإنه لم يبتكر هذه الحالة حين نظمهاrlm;,rlm; وانما كان عاكسا لواقع حاصل فعلاrlm;,rlm; لأن المجتمع كان فيه تعدد لقوي سياسية واجتماعية متبلورة في تنظيمات وتكوينات مؤسسيةrlm;,rlm; ولم يكن في مقدور أي من هذه القوي ان تنفي الاخريات في الواقع السياسي والاجتماعيrlm;.rlm;
بكلام آخر فان التعدد في دستورrlm;23rlm; لم يكن معتمدا علي نصوص وردت منهrlm;,rlm; وانما كان يعتمد اساسا علي الوجود الواقعيrlm;.rlm; وهو مايعني ان مايحسم الأمر ليس النصوص الواردة في الدستورrlm;,rlm; وأنما الوجود الحقيقي والحي علي ارض الواقعrlm;,rlm; الذي يعبر عنه مصطلح البيئة السياسيةrlm;,rlm; التي تنظمها النصوص وتعبر عنهاrlm;.rlm;

rlm;(4)rlm;
اذا ألقيت نظرة علي خرائط الواقع السياسي في مصر فستدرك علي الفور أن ثمة خللا كبيرا في علاقة السلطة بالمجتمعrlm;,rlm; يسوغ لنا أن نقول بأن العلاقة بين الطرفين في الوزن والحجمrlm;,rlm; اقرب إلي علاقة الفيل والنملةrlm;,rlm; وربما كان مشهد الترشيح لرئاسة الجمهورية في الانتخابات الاخيرة والمقارنة بين حضور الرئيس مبارك وبين منافسيه معبرا اصدق تعبير عن توازنات تلك العلاقاتrlm;.rlm;
واذا استعدنا هنا الحقيقة القائلة بأن الدستور يعبر عن توازنا المجتمع وخرائطه السياسيةrlm;,rlm; فإن ذلك يقودنا إلي نتيجتين من الأهمية بمكان الأولي أنه من الخطأ والخطر ان تستجلب نصا قانونيا افرزته تجربة مجتمع ماrlm;.rlm; لكي تطبقه علي مجتمع آخرrlm;,rlm; تختلف فيه التوازنات وعلاقات القوميrlm;,rlm; وهي الحقيقة التي ادركها اعضاء المجلس القوي لحقوق الانسان عند مناقشة المادة الخاص بفترة ولاية الرئيس في الدستورrlm;,rlm; فصوتrlm;24rlm; منهم لصالح العودة إلي نظام الولايتينrlm;,rlm; في حين لم يصوت لصالح اطلاق المدد سوي عضو واحدrlm;.rlm;
النتيجة الثانية انه من الخطأ والخطر الشروع في الاصلاح الدستوري بتغيير بعض المواد أو أضافة مواد أخري قبل تهيئة البيئة السياسية المواتية من خلال الاصلاح السياسي الجادrlm;.rlm; ذلك أن المبادرة الي احداث اي تغيير للقوانين قبل تحسين البيئة لن تختلف كثيرا في منطقها عن وضع العربة امام الحصانrlm;.rlm; من ثم فليس لنا ان نطمئن إلي اصلاح دستوري حقيقي لايسبقه اطلاق الحريات العامة والغاء قانون الطواريء وتأكيد استقلال القضاء وضمان نزاهة الانتخاباتrlm;...rlm; إلي غير ذلك من الشروط الضرورية لاستعادة عافية المجتمع واستطالة قامته وجريان دماء الحيوية السياسية في شرايينهrlm;,rlm; وهي ذاتها الشروط التي ترد للمجتع اعتبارهrlm;,rlm; وتوفر له البدائل والخيارات السياسية المختلفةrlm;,rlm; وتمكنه من التعامل مع السلطة كطرف محاور لاكطرف تابع معدوم الارادةrlm;.rlm; ومالم يتحقق ذلكrlm;,rlm; فالبديل هو تأبيد السلطة وحجب فكرة التداولrlm;.rlm; إذ سنظل بإزاء صورة النملة التي تتحرك في ظلال الفيلrlm;,rlm; وسيصبح الاصلاح في هذه الحالة مجرد فرقعة في الهواءrlm;.rlm;لا تغير شيئا مماهو حاصل علي أرض الواقعrlm;.rlm;