تركي السديري
لو كنتَ في قرية نائية تختفي بين بحيرات كندا الكبرى، أو معزولاً في قرية أسترالية تتلهى بمطاردة الكنجارو، ومصادقة العرقية شبه المنقرضة من السكان الأصليين هناك، وأحببت أنت المهاجر طفلاً قبل خمسين عاماً أن تطلع على أوضاع العالم العربي.. ولاشك سيكون عقلك ومعلومات ثقافتك مملوءة بكل جديد عن تطور وسائل العلاج ومحاصرة انتشارات السرطان وما تعنيه العمليات الجراحية بأسلوب القلب النابض من تقدم علمي مبهر وكيف أن حبة واحدة تأخذها صباحاً تجد فيها أنواع الفيتامينات والمعادن كذلك توفير الفرصة علمياً للعاقر كي تلد وأن بيت السكن لم يعد اسمنتاً وحديداً ولكنه صفائح تغير أوضاعها كلما شئت التجديد بتكلفة سهلة.. وماذا يعنيه غزو الفضاء من توفر دراسات علمية ومشتقات، اضافة الى الوسائل المتاحة صحياً وكيف في أوروبا بالذات لم تعد الديموقراطية مجداً شخصياً لأفراد، كما ظهر ذلك خلال الثورة الفرنسية، وإنما ثقافة شعبية ليس في مقدور صاحب طموح مجد شخصي أن يعبث بها.. كيف أصبح القطار مكتبة، والمول التجاري مجمعاً تخرج منه وفي عربتك كل ما تحتاج، وكأنك زرت مئة سوق..
تسأل نفسك أين هو العالم العربي من كل ذلك.. لقد هاجرتَ طفلاً والثوريون يمجدون شعارات الوحدة والحرية.. البعث يعد بفردوس الديموقراطية والاشتراكية الخاص.. المثقفون آنذاك يعزلون أنفسهم في حوارات تصعيد لمثاليات العزلة غير الواقعية والشارع يستلذ كشف ما وراء فستان المرأة حيث يعضد ذلك أكثر من شاعر سكِّير.. ستأتيك أخبار مفزعة.. لقد انحدر العالم العربي إلى الخرافة.. إلى الهرطقة.. إلى تجارة الوهم والأخطر أن السياسيين يتسلحون بذلك.. عند رأس السنة انتشرت في الفضائيات استضافات المنجمين.. كيف سينتهي الوضع في لبنان.. ما هو مصير العراق.. ماذا بعد في الصومال والسودان.. من هي الطائفة الدينية التي ستكسب الجولة.. والعامة مذهولون مشدوهون يبتلعون إيحاءات الوحي الكاذب..
صحف ومجلات صغيرة كانت تباع بدولار ضُمنت بتحقيقات عن التنجيم وأشير لها على الغلاف فغلفت بالبلاستيك وطرحت بقيمة عشرة دولارات والعامة يشترون ويقرأون ثقافتهم الجديدة في المقاهي.. وعلى كراسٍ مجاورة من اطمأنوا صباحاً بعد سماع مشائخ وهم يدلون بتفسيرات أحلام المنام.. وفي مقهى آخر هناك مطمئنون آمنون بعد أن تناولوا دواء الأعشاب بدلاً من دواء الطب حيث تروى أساطير عن قهر أمراض مستعصية.. وتقرأ الصحف عن المعجزات المزعومة للمشعوذين وطبيبات عالم الجن في عالم تشك أنه فقد عقله تماماً..
في عدد يوم الأحد الماضي كتبت بعنوان quot;استلاب وعي العامةquot; عن أساليب الساسة في تحريض العامة بلبنان من الشيعة بواسطة كتيبات وبورشورات ملونة وأنيقة تتحدث عن عصر ظهور الإمام المنتظر وأنه يناصرهم فعلاً في معاركهم.. أرجو أن يكون واضحاً.. أنا أقول الساسة ولست أقول علماء الشيعة الذين بينهم رجل عميق الثقافة والوعي هو الشيخ محمد حسين فضل الله لو كان بيد أمثاله القرار لما افتعل الصراع.. اليوم تأتي إلى السنة في ممارسة أسوأ فقد نبهني زميل إلى مقابلة للمحامي عن صدام حسين خليل الدليمي في قناة quot;ال بي سيquot; وقد تابعت واستمعت إليه مساء أول أمس الاثنين يقول بأن صدام لم يمت وأن العراقيين قد لاحظوا وجود صورته في اليوم التالي على وجه القمر ثم أبرز صوراً ادعى أنها التقطت للقمر بعد أن صعد إليه صدام حسين.. لا يقف الأمر عند هذا الحد ولكن بعد تنفيذ الإعدام روجت بعض مواقع الانترنت ادعاءات شعبية تقول إن هناك من شاهد صدام حسين يقاتل مع المجاهدين..
أي عالم هذا.. هرطقة في العلوم والطب والعلاقات والسياسة.. وكل شيء.. كل شيء..
التعليقات