خالد الغنـّامي
رغم أن ثقافتنا المحلية تقول منذ مئات السنين إن الموسيقى حرام في دين الإسلام، ورغم كل تلك الخطب المنبرية والأشرطة التي وزعت بكميات مهولة حتى دخلت كل بيت سعودي تلعن الغناء وتشتم الموسيقى وتقول إن من يستمع لآلات الطرب يصب في أذنيه الحديد المذاب يوم القيامة، رغم كل هذا، فشلت الحرب على الموسيقى والغناء. هل هذا من إلقاء الكلام على عواهنه بدون دليل حقيقي على هذا الفشل الذي أدعيه بقوة؟
يكفينا على ذلك دليل واحد نشاهده ونعيشه كل يوم من أيامنا على مدى الأربع وعشرين ساعة. ما عليك إلا أن تمسك بالريموت كنترول بيدك وتتجول بين كل القنوات الموسيقية التي يصلنا بثها من كثير من الدول العربية واستمع للهجات المتصلين الذين يشاركون ويطلبون الاستماع لأغانٍ معينة، ستجد أن غالبيتهم من السعوديين والسعوديات، وقد لا أكون مبالغاً إن قلت إن 90% من المتصلين هم من شباب وشابات بلدنا. أعتقد أن هذا يكفي للاعتراف بهذه الحقيقة، لقد فشلت الحرب على هذا الفن فلنترك المكابرة.
دعونا ننتقل للخطوة الثانية ونطرح تساؤلات جديدة، لماذا فشلت هذه الحرب؟ هل كانت حرباً عادلة؟ وإذا كانت عادلة فكيف فشلت؟ هل انغمس المجتمع في الرذيلة لهذه الدرجة بحيث يرى الإسلام ينهى عن أمر ويفعله بهذا الشكل السافر؟
أعتقد أنه يكفي للجواب عن كل هذه التساؤلات أن نقول: الموسيقى لا يمكن أن تكون محرمة في أي شريعة حقيقية لأن الشريعة السماوية - ببساطة - لا يمكن أن تأتي بما يخالف الفطرة والغريزة الإنسانية، وحب الموسيقى والصوت الجميل شيء مفطور في النفوس، في عقل الإنسان وفي قلبه.كيف يمكن أن تكون الآلات الموسيقية محرمة وأعظم آلة موسيقية عبر كل العصور هي (حنجرة الإنسان)؟! أصوات العصافير هي موسيقى فهل سماعها محرم أيضاً؟
الصوت الجميل هو طرب بحد ذاته ولو لم ترافقه آلات موسيقية، والصوت الجميل باتفاق الشرائع ليس بمحرم سواء كان صوت رجل أو صوت امرأة، بل إن الكثير منا في رمضان يركبون سياراتهم ليصلوا التراويح والقيام خلف إمام عذب الصوت يتلو القرآن ويتغنى به (رغم أن من يفتون بحرمة الغناء جاهدوا كثيراً للتخلص من مصطلح التغني بالقرآن رغم وروده في نصوص معتبرة عندهم)، ولو كان مسجده بعيداً عن بيوتهم.
هذا كله شيء غريزي ولن يجدي نفعاً محاربة الغريزة مهما حدث ومهما فعل الناس ولو جلدوا الناس على سماعها كما كانت تفعل طالبان فرغم هذا ظل الناس يطربون ويجلدون.
لو أردنا أن نتحدث عن الجانب الشرعي للمسألة لوجدنا أن دين الإسلام يقول إن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نص ديني يدل على خلاف ذلك وقد تكلم علماء الحديث والفقه على كل النصوص التي وردت في هذا الشأن وقالوا إنه لا يصح منها دليل، منهم ابن حزم الأندلسي وابن القيسراني وغيرهما، ومن المعلوم أن المسألة الفقهية عندما تكون من الأشياء التي اختلف فيها جاز للمكلف أن يأخذ فيها بقول من يعتقد صحة مذهبه، ولا يجوز أبداً أن نلزم الناس بمذهبٍ فقهي معين لأن هذا فيه اعتداء كبير على الإسلام نفسه واجتراء على الله وحكم بغير ما أنزل الله، وحبس للنص في فهم واحد رغم أن النص مفتوح وسيبقى مفتوحاً للتفسير لأن البشر لا يمكن أن يحيطوا به مهما حاولوا ولن يحبسوه وإن جهدوا كثيراً في ذلك.
يبقى أن نقول إننا عندما نتحدث عن الموسيقى والفن فإننا نتحدث عن الرقي والسمو بالروح واستشعار الجمال والنقاء وبيت الشعر المعبر عن تجربة إنسانية تستحق المشاركة، أما ما نشاهده في بعض ما يعرض في القنوات الفضائية من سخف وسقوط وابتذال لجسد المرأة فهذا شيء آخر غير ما نتحدث عنه هنا وندافع عنه، ونسبة (أسواق النخاسة) تلك للفن والموسيقى هي من الظلم الذي لا يجوز قبوله.
فلنرفق بأنفسنا قليلاً ولنشفق على الإسلام من أنفسنا أن نظهره للناس بصورة جافة غليظة تحارب الإبداع وتقتل الحس وتحارب ما هو غريزي لكي نأمن من ردود الأفعال القاسية التي ترد على البشر عندما يحبسون في الزاوية بمثل هذا السلوك الذي يفتقد المرونة ولا يستشعر حاجات الإنسان ولا معاناته اليومية في أن يكون متديناً في عصر العلم. العلم الذي أثبت لنا أن استماع الموسيقى نافع لعلاج المرضى.
- آخر تحديث :
التعليقات