23 يناير 2007
خيري منصور
حتى الكتابة تحولت الى عبء على أصحابها، ولأن البوصلات كلها باتت مهددة بالعطب بحيث لا يدري التائه ما إذا كان يتجه شرقاً أو غرباً، شمالاً أو جنوباً فإن المخرج بل الملاذ هو أشباه الجمل، تلك التي يبحث مبتدؤها عن خبرها فلا يجده، ويصبح المجرور فيها حاملاً بما جرّه وإلى أين رماه.
وبعض اللحظات الأشد ثقلاً وحرجاً في التاريخ تتطلب مواقف إن لم تكن مفروزة اللون فعلى الأقل يجب أن تكون ذات طعم، وليست كالماء الذي يروغ من بين الأصابع.
لكن الزمن الآن زمن ارتهانات لا آخر لها، والحرية كلمة تشبه كرسي الإعدام كما وصفها شاعر عربي بلغ به الخذلان حداً أفقده الرجاء.
وخير السبل في لحظات عسيرة كهذه هو استدعاء كل واحد لما في حوزته أو في سنامه من احتياطيات، كأن ينبش دفاتره القديمة، مثلما يفعل المفلسون والمدينون، فيتحدث عن أزمنة غابرة بلا أية إيحاءات، أو يثرثر عن نفسه باعتباره الأعور الوحيد في بلد العميان.
إن خسارة الشهود في هذه اللحظات هي النذير باكتمال الجرائم كلها، وبالتالي نسبتها الى المجهول، والشهود كما يبدو أصبحوا أيضاً في خطر فقد أصاب العته الألسنة الذربة، مثلما أصاب الكساح العدائين الذين طالما سبقوا الأرانب البرية، وهم يزهون على السلاحف المسكينة التي تحمل قبورها على ظهورها.
وهناك من ظفروا زمناً بتأجيل لحظة إعلان الموقف من قضايا ليست ثانوية، أو مجردة بل هي ذات صلة عضوية بلحم أطفالهم ومستقبل أوطانهم، والذاكرة التاريخية التي لم يبلغها الزهايمر السياسي حتى الآن، اللهم إلا على سبيل التظاهر بالنسيان هرباً من ثمن الموقف.
ولدينا في هذا النطاق الثقافي والصحافي في العالم العربي أناس مدربون جيداً على السير في حقول الألغام، ولهم أنوف مدربة على شمّ رائحة الخطر، لهذا فهم يقولون ألف قول كي لا يقولوا شيئاً واحداً، ويطلقون على أي شيء ألف اسم غير اسمه الحقيقي هرباً من المواجهة وتحمل عبء التسمية، لأنها باهظة التكلفة.
والأرجح أن هناك من يتمنون من أعماقهم أن يسير التاريخ برتابة وعلى وتيرة واحدة، لأن أي مباغتة تحرجهم أخلاقياً وتاريخياً، فيجدوا الملاذ في المهارات المهنية، واحتراف المواربة رغم أنهم غالباً ما ينحازون للقيصر على حساب أي حقيقة وأية سماء.
والقارئ الجيد لتاريخنا، الذي يتجاوز تصفح الكتب قارئاً ما بين سطورها وما وراء أكماتها يجد أن هذه الأزمة عريقة ومزمنة ووجدت دائماً ما يرضعها ويغذيها كي تنفرج على طريقتها، أي بالهرب من النافذة إذا خلع الأعداء الأبواب ولم يطرقوها.
نعرف أن لكل كائن دفاتره القديمة، والتي قد يلوذ بها لحظة الإفلاس، لكن الكتابة في هذا الوقت الذي اتضح فيه الأسود وظهر الخيط الفاصل بينه وبين الأبيض لا سبيل الى المراوغة والعزف على أوكارديون تتناوبه خاصرتان واحدة ملائكية وأخرى للشيطان.
وأرجو ألا ينصرف الانتباه الى ثنائيات الخير والشر، والفلسفة (المانوية) التي يعاد إنتاجها الآن في زمن الانترنت، ذلك لأن البعد الأخلاقي للتاريخ لا يعترف بأنصاف الحقائق وأنصاف المواقف، وأشباه الجمل سواء كانت سياسية أو من أية سلالة معرفية.
لقد بلغ المنشار العظم، حتى أسال النخاع ولم يعد التأجيل ممكناً، كما أن البحث في الدفاتر القديمة التي يلوذ بها المدينون عندما يحاصرهم الإفلاس عن عكاز لا يليق بمهنة إذا أصابها الفساد الضميري يفسد حتى الملح!
التعليقات