الخميس 25 يناير 2007

ناصر الظاهري


غاب ''الأب بيير'' في ساعة مبكرة من صباح يوم باريسي بارد، حيث كان يعالج من نزلة رئوية في مستشفى ''فال دو غراس'' العسكري، غاب أبوالفقراء عن 94 عاما، قضاها كلها في أعمال البر والتقوى والمقاومة ومجالدة النفس، مات كأكثر الناس شرفاً وقيمة ورفعة، أتذكره، وأتذكر وجهه إن طلّ على الناس، دائماً مرتبط في ذهني بالبرد والشتاء ودنو سقوط الثلج، كان له دفء الجد أو هكذا أدركته في نهاية عمره الطويل، يكن له الفرنسيون والأوروبيون ومن يعرفه من سكان العالم التقدير والإجلال، فقد كانت حياته منصرفة للرهبنة وخدمة الفقراء والمشردين، كان ''الكلوشار'' أحبابه، وكان وجه عندهم أكثر صبحاً وفرحاً من وجه رئيس الجمهورية الفرنسية، لذا أسس لهم ومن أجلهم جمعية ''إيمايوس'' الدولية للعمل الانساني التي أصبح لها فروعاً في 39 بلداً حول العالم، والتي بدأت في منزل مهدم ضاحية نوييه الباريسية، كان يعمل على ترميمه، وشكل نواة أولى لمؤسسته الخيريةmiddot; نعاه الرئيس الفرنسي جاك شيراك معبراً عن حزنه، وحزن فرنسا للفجيعة المرّة، وكأنها اصيبت كلها في صميم قلبها، لما يعنيه هذا الفقد لشخصية ''الأب بيير'' الهائلة والمعطاءة، وذات الضمير الحي، والتي تجسد المروءة والشهامة والشجاعة كلهاmiddot; ''هنري غرويس'' كان هذا هو اسمه قبل يتفرغ للرهبنة، وهو في التاسعة عشرة من عمره حين التحق بالكهنة الكبوشيين، ينحدر من اسرة بورجوازية من مدينة ليونmiddot; التحق بالمقاومة الفرنسية إبان الاحتلال النازي لفرنسا في الحرب العالمية الثانية، انشأ مجموعات للمقاومة في منطقة فيركور، وساعد العديد من اليهود على الفرار، بتزويدهم بأوراق ثبوتية مزورة، هرب من ملاحقة الجستابو الى الجزائر، وفي عام 1943 التقى الجنرال ديغول هناك، وبعد تحرير فرنسا، تم انتخابه نائباً في البرلمان بين الأعوام 1945 -middot;1951 في شتاء 1954 وجّه ''الأب بيير'' نداءه الأول ضد الفقر، دعا فيه الى ''انتفاضة المروءة لصالح من لا سقف له'' إثر موجة الصقيع التي ضربت فرنسا، ووفاة امرأة وطفلها بسبب البرد على أحد الأرصفة، فقصد إذاعة ''آر تي ال'' وأطلق صرخته الشهيرة ''النجدة يا اصدقائي'' ولقي هذا النداء صدى ودعما إعلاميا وسياسيا وماديا، توج بحملة شعبية كبرى للتضامن، أسفرت عن جمع 120 مليون فرنك فرنسي، ثم أقر البرلمان الفرنسي برنامجاً لبناء المساكن للمشردينmiddot; في عام 1996 وقف في صف واحد مع المفكر روجيه غارودي في الحملة التي تعرّض لها بعد صدور كتابه ''الأساطير المؤسسة لدولة سرائيل'' مستنكراً الآراء التي بالغت في حجم الإبادة النازية لليهود، ومحرقتهم في المعسكرات النازية، منادياً بأن ضحايا اليهود بالأمس، أصبحوا اليوم هم الجلادين، داعياً فرنسا والعالم إلى ضمان حرية الفكر والتعبير، والوقوف ضد ''اللوبي الصهيوني العالمي'' بعد تلك التصريحات والموقف النبيل مع غارودي، تعرض ''الأب بيير'' للتشهير والمحاربة من قبل الصهيونية، وتم نعته بأنه ضد السامية، مما حدا به إلى الاعتكاف في أحد الأديرة الايطالية، طالباً من الله وحده أن يحاسب الناس على نواياهمmiddot; في عام 2001 قلدته فرنسا وسام الشرف برتبة ضابط أعلى، لكنه اعتذر من الرئيس الفرنسي، رافضاً هذا التقليد احتجاجاً على بطء الحكومة في تنفيذ مشاريع إسكان الفقراءmiddot; في شتاء عام 2004 أصدر بيانه الثاني ضد الفقر، بعد نصف قرن من ندائه الأولmiddot; طوال 17 سنة ظل الفرنسيون يختارونه كأفضل شخصية محبوبة على رأس لائحة الشخصيات المفضلة لديهمmiddot; الراهب ''الأب بيير'' ترك الدير صغيراً، لأن الحياة والعمل فيها أوسع، ترك حياته البرجوازية مبكراً، لأن العمل من أجل الفقراء أسعدmiddot;middot; كان واحداً من الرجال الشرفاءmiddot;middot; وهذا يكفيهmiddot;