الجمعة 26 يناير 2007
محمد السماك
إذا كان المطلوب إرسال المزيد من القوات الأميركية إلى العراق بعد مرور ثلاث سنوات على الاحتلال سقط خلالها حوالى 700 ألف قتيل عراقي وحوالى 3050 قتيلاً أميركياً، وإذا كان المطلوب إرسال المزيد من قوات حلف شمال الأطلسي إلى أفغانستان بعد مرور أربع سنوات على الاحتلال سقط خلالها ما لا يعرف عدده من الضحايا من الأهالي ومن القوات الأطلسية أيضاً، وإذا كانت شعبية الرئيس جورج بوش قد انخفضت إلى أدنى مستوى في تاريخ الرئاسات الأميركية حيث لم تعد تتجاوز 29 في المئة فقط وفق الاستطلاعات الأخيرة للرأي العام الأميركي، وإذا كانت سمعة الولايات المتحدة في العالم قد تراجعت إلى درجة بات معها المواطن الأميركي يشعر أنه مضطر لإخفاء هويته الأميركية عندما يزور أية دولة في العالم سواء كرجل أعمال، أو كسائح، أو كمبعوث لمنظمة دولية.. دعك من أن يكون مسؤولاً أو دبلوماسياً أميركياً، إذا حدث كل ذلك، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: إلى أين يجرّ الرئيس بوش بلاده؟ وإلى أين يجرّ الشرق الأوسط؟ إلى أين يجرّ العالم؟
تبدو السياسة الخارجية للولايات المتحدة في حالة من التعثر لم تعد تنفع معها مساحيق إخفاء الاهتراء والترهّل، ولا التلويح بالقبضة الحديدية. وربما يكون الوقت قد حان لتطرح إدارة الرئيس جورج بوش على نفسها السؤال الذي طالما تهرّبت منه. وهو: لماذا تحوّل العالم -وليس العالم العربي والإسلامي وحده- من معجب شديد الإعجاب بقيم الحرية والليبرالية التي ترفعها الولايات المتحدة، إلى كاره شديد الكراهية لسياستها الخارجية؟ إن كسب الأصدقاء فنٌّ قائم بذاته. وكذلك استعداء الشعوب والدول. وقد برعت الولايات المتحدة في ممارسة الفنَّين. فبلغت في مرحلة الحرب العالمية الثانية وما بعدها أعلى مراتب الاحترام والتقدير، وهبطت الآن إلى الدرك الأسفل، سواء من حيث نظرتها إلى نفسها أو من حيث نظرة العالم الخارجي إليها.فلا يمكن أن يكون العالم بكل ثقافاته وإثنياته وعقائده على خطأ، والولايات المتحدة وحدها على صواب. فجرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الأميركية على سبيل المثال في فيتنام تجدد نفسها بأبشع صورة في العراق وأفغانستان. وإذا كان الإنصاف يقتضي التنويه باعتراف الولايات المتحدة بهذه الجرائم، وبمحاكمة مرتكبيها -ولو شكلياً-، فإن الإنصاف يقتضي أيضاً القول إن الخطأ عندما يتكرر ويتواصل لا يعود خطأ، بل يصبح سياسة، بل منهجاً. أليس غريباً أن استطلاعات الرأي العالمي التي تجريها مؤسسات أميركية تؤكد أن الولايات المتحدة تشكل خطراً على السلام العالمي أكثر من إيران. وحتى أكثر من كوريا الشمالية؟ ومع ذلك، فإن الرئيس الأميركي بدأ تحركاً دبلوماسياً جديداً في الشرق الأوسط تحت شعار الدولتين الإسرائيلية والفلسطينية، مستهدياً في ذلك بورقة quot;خريطة الطريقquot; الرباعية (الولايات المتحدة والاتحاد الروسي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة). من هنا السؤال: هل يتحرك الرئيس بوش تحت ضغط فشله في العراق وأفغانستان وفي الحرب على الإرهاب، أم أنه يتحرك لتغطية هذا الفشل؟ وتالياً هل يضاف تحركه الجديد إلى قائمة إخفاقاته المدوية، أم أنه سيفتح أمامه الطريق لمعالجة هذه الإخفاقات وتداعياتها من خلال معالجة الملف الفلسطيني- الإسرائيلي؟ للإجابة على هذا السؤال، لابد من إلقاء الضوء على مؤدى تحركات وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس وما عرضته من اقتراحات.
ومما رشح فإن الرئيس الفلسطيني محمود عباس رفض من رام الله، ثم كرر الرفض من دمشق (عندما اجتمع بخالد مشعل)، اقتراحاً بإقامة quot;دولة فلسطينية بحدود مؤقتةquot;. فما كان للرئيس الفلسطيني أن يرفض حلاً للقضية الفلسطينية يقوم على هذا الأساس ما لم يطرح عليه. فالرفض ضروري ومشروع. ذلك أن الحل المؤقت يصبح بفعل الأمر الواقع حلاً دائماً. وإذا كان من حل واقعي وعملي فهو أن تقوم الدولة الفلسطينية بموجب قرارات الأمم المتحدة 194 و242 و338. القرار الأول يتعلق بحق العودة والتعويض على الفلسطينيين، أما القراران الباقيان فيتعلقان بمبدأ quot;الأرض مقابل السلامquot; الذي تبنّاه وأكد عليه quot;مؤتمر مدريدquot; قبل 15 عاماً. وتقع الأرض، في حدِّها الأدنى، ضمن حدود 1967. لقد أعلن الرئيس الفلسطيني، رفض مبدأ الحدود الموقتة أثناء لقائه الوزيرة رايس، إلا أن العرض حمله إليه قبل ذلك، رئيس الحكومة البريطانية توني بلير. فالزعيم البريطاني مع الأسف الشديد تحوَّل إلى متعهد تسويق لمقترحات أميركية تتم صياغتها عادة في دوائر صناعة القرار الأميركي التي تشرف عليها عقول صهيونية متعصِّبة ومتطرفة. ومن هنا فإن فشل رايس -وقبلها بلير- في تسويق هذه البضاعة الفاسدة يوحي بالاطمئنان بأن مشروع quot;الشرق الأوسط الجديدquot; الذي تدعو إليه إدارة الرئيس جورج بوش، لم يجد حتى الآن على الأقل أي نقطة للانطلاق. ونقول حتى الآن، لأن ثمة نقاط انطلاق عديدة أخرى لهذا المشروع من بينها تفجير الفتنة الفلسطينية بين السلطة وquot;حماسquot;. وتحويل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي إلى صراع فلسطيني- فلسطيني. ومن بينها أيضاً، توظيف المخاوف العربية من المشروع النووي الإيراني إلى فتنة عربية- إيرانية، ومن ثم إلى فتنة سُنية- شيعية تعم المنطقة كلها، وبالتالي تحويل الصراع العربي- الصهيوني إلى صراع عربي- فارسي، فالفشل الأميركي- البريطاني في التسويق لا يعني التخلي عن المشروع. ففي الأساس فإن هذا المشروع وُلد في الستينيات من القرن الماضي على يد المفكر اليهودي- الأميركي المعروف برنارد لويس عندما كان يعمل لحساب البنتاغون- وزارة الدفاع الأميركية.
ورغم العثرات العديدة التي مرّ بها (اجتياح لبنان 1982، وتقسيم السودان إلى شمال وجنوب، وتوظيف سوء معاملة الأكراد في شمال العراق لفك الارتباط بين العرب والكرد)، فلم تتخلّ عنه، لا إسرائيل ولا الولايات المتحدة. إن quot;الشرق الأوسط الجديدquot; يعني إعادة النظر في الخريطة السياسية للمنطقة على أسس طائفية ومذهبية وعنصرية، الأمر الذي يستجيب لمقتضيات الأمن الاستراتيجي لإسرائيل. إلا أنه قبل أن تنطلق رايس في مهمتها الجديدة، جرى تسريب متعمد على ما يبدو لمعلومات عن مباحثات سرية وغير رسمية جرت بين سوريا وإسرائيل. فعلى ما قيل فإن المباحثات التي جرت منذ عام 2004 بين السفير الإسرائيلي السابق quot;آلون ليالquot;، ورجل الأعمال السوري المقيم في واشنطن إبراهيم سليمان بوساطة دبلوماسي سويسري توصّلت إلى صيغة لحل قضية مرتفعات الجولان. وبموجب هذه الصيغة تستعيد سوريا سيادتها على هذه المرتفعات التي احتلتها إسرائيل في عام 1967، على أن تتحول إلى منطقة منزوعة السلاح تماماً، وعلى أن يسمح للإسرائيليين بالدخول إليها من دون تأشيرة من سوريا، مع ضمان quot;حقوقquot; إسرائيل في مياه بحيرة طبريا وفي مياه الأنهار التي تصب فيها، على أن يلتزم الطرفان السوري والإسرائيلي كذلك بتخفيض قواتهما على جانبي الحدود مع الجولان. ولم تتطرق هذه الصيغة إلى القضيتين الأشد حساسية وهما المستوطنات اليهودية في الجولان، والمهجرون السوريون الذين أُبعدوا من المنطقة أثناء حرب 1967. وكانت وقائع هذه المباحثات تنقل باستمرار إلى نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني، وإلى الحكومتين السورية والإسرائيلية من خلال المفاوضين إبراهيم سليمان وquot;آلون ليالquot; والوسيط السويسري. غير أن الحرب الإسرائيلية على لبنان في الصيف الماضي أجهضت مشروع الاتفاق. والواقع أنه لم تكن هذه المرة الأولى التي يفشل فيها الطرفان السوري والإسرائيلي في التوصل إلى اتفاق. فـquot;مؤتمر مدريدquot; الذي عُقد في عام 1991 على قاعدة quot;الأرض مقابل السلامquot;، فشل في تحقيق أي تقدم. ثم فشلت مفاوضات quot;شبرد تاونquot; في ولاية فرجينيا بالولايات المتحدة في عام 2000 بعد أن أصرَّ رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق إيهود باراك على الاحتفاظ بمساحة عشرة أمتار من أراضي الجولان الممتدة على طول بحيرة طبريا من أجل أن يكون لإسرائيل حق السيادة الكاملة على مياه البحيرة (والتي تشكل وحدها 40 في المئة من مخزون المياه العذبة في إسرائيل). وكان الرئيس الراحل حافظ الأسد قد أصرَّ بدوره على استعادة كل شبر من أرض الجولان وبالتالي من مياه البحيرة. هذه المحاولات الفاشلة تطرح الآن أمام كوندوليزا رايس السؤال التالي: أيهما أفضل للخروج من الحلقة المفرغة في الشرق الأوسط: البوابة السورية- الإسرائيلية، أم البوابة الفلسطينية- الإسرائيلية؟ قد تكون البوابة السورية أسهل، إلا أنه بالنسبة للإدارة الأميركية فإن البوابة الفلسطينية أفضل. يبدو أن سوء العلاقات الأميركية- السورية يفرض جواباً وحيداً في هذه المرحلة الأمر الذي يفسر تركيز رايس على الملف الفلسطيني- الإسرائيلي وحده. ففي الحسابات الأميركية أنه إذا نجحت رايس في هذه المهمة الصعبة، فإن من شأن ذلك أن يجرِّد سوريا من الورقة الفلسطينية بعد أن جُرِّدت من الورقة اللبنانية، كما أن من شأنه أن يزيد من عزلة سوريا عربياً. ولكن يبقى السؤال: ماذا عن علاقة سوريا بحركة quot;حماسquot; وقادتها الذين يقيمون في دمشق مع قادة آخرين لحركات المقاومة الفلسطينية؟ وماذا عن علاقة سوريا بـquot;حزب اللهquot;، وبعدد آخر من الأحزاب والشخصيات السياسية اللبنانية؟ وماذا عن البعد الإيراني من خلال تحالف إيران مع سوريا وquot;حماسquot; وquot;حزب اللهquot;؟ ثم ماذا عن علاقة ذلك كله بتعثر تشكيل حكومة وحدة وطنية في كل من فلسطين ولبنان، وبالتخوف من حرب أهلية هنا وهناك؟ لاشك في أن هذه الأسئلة ستفرض نفسها على القمة العربية المقبلة في الرياض. فكيف ستجيب عليها؟
التعليقات