حازم صاغية

كانت، ولا تزال، الأحداث اللبنانيّة درساً باهراً في علم النقائض: هناك من يأتي الى البلد بأكثر من 7.5 بليون دولار، ويوجِد لبنان في قلب العالم، وهناك من يريد أن يقاوم، طارداً المال المتوافر أصلاً في البلد، ومُرجعاً إيّاه قرية قاحلة. ولأجل غرض كهذا تُستنفر حجج فيها، بذاتها المجرّدة، بعض الوجاهة، فيقال إن المال الآتي لن يُوزّع بالتكافؤ والتساوي، وقد تستحوذ البورجوازيّة ومصارفها على أكثر من نصفه. ويقال، كذلك، إن السلطة التي تأتي بالمال لا تمثّل الشعب كلّه وانها، من ثمّ، منحازة الى توجّه سياسيّ وايديولوجيّ يطرّز الفساد أطرافه. لكنْ سبق أن سمعنا هذه الحجج، حرفيّاً تقريباً، قبل 23 نيسان (ابريل) 1969 وقبل اندلاع laquo;حرب السنتينraquo; وقبل 6 شباط (فبراير) 1984 وقبل كلّ محاولة كانت تسبق ضرب الحياة المدنيّة ومنع الدولة (السيّئة، الفاسدة، البورجوازيّة الخ...) من القيام. وفي نهاية المطاف، وفي موازاة انشقاق في السلطة يجسّده احتجاب طائفة من الطوائف، كنّا نُساق الى فوضى مدمّرة وتذابُح يصحبه انعزال laquo;ضيعجيّraquo; عن العالم. وأسوأ من هذا أن النموذج البديل الذي نفيء إليه ونلوذ به يكون من النمط البلغاريّ في زمن الحرب الباردة، ومن النمط الإيرانيّ بعدها، ودائماً من النمط السوريّ.

ويُستحسن بذكائنا وذاكراتنا ألاّ تنطلي عليها هذه الذرائع الخرقاء مجدّداً، فتستنهض الحرب الأهليّة وتعيد تسليمنا جثّةً موحّدة، أو جثثاً مفرّقة، للشقيق البعثيّ الأكبر. فها نحن، وكم رأينا هذا من قبل، نشهد كيف أن laquo;الحوارات الإقليميّةraquo; غدت العنصر الوحيد الذي يُعوّل عليه للحفاظ على سلم أهليّ اغتيلت بالقضايا المزعومة الكبرى، المقوّمات الداخليّة لصونه، وكيف يُستنزف الجيش في مجابهات موضعيّة قد تؤول الى انكشاف عجزه أو الى شقّه. وفي الحال هذه لن يقتصر الأمر على بُعد رمزيّ فحسب، إذ يغدو موصولاً بتنفيذ القرار 1701 وبطرح مسألة الأداة القادرة على تنفيذه!

ولا البراءة كانت سيّدة الموقف ولا العفويّة: صحيحٌ أن لبنان عاش منذ ولادته صنو التفتّت، لا تمسّه الوحدة إلاّ خطابةً ولماماً. لكنّ ما كشفته الأيّام الأخيرة أن التفتّت بلغ بنا مبلغاً لم نعرفه في أحلك أيّام الحروب الأهليّة - الاقليميّة المديدة. فهل هي صدفة أن نكون على حال كهذه بعد مرور عقد ونصف العقد على حكم الوصاية laquo;الوحدويّraquo;؟ أم أن ما قيل في العراق عن إمعان الحكم الصدّاميّ في تفتيت مجتمعه، يجوز قوله، مخفّفاً، في لبنان على يد البعث الآخر؟

ولنتذكّر، مع حفظ الفارق الكبير في درجة القمع بين لبنان السوريّ والعراق الصدّاميّ، أنّنا حُملنا لعقد ونصف العقد على كذب أملاه الكبت والتقيّة، فقلنا إنّنا مجمعون على الدور الخلاصيّ والمنقذ لسيادة الرئيس حافظ الأسد، وعلى قداسة المقاومة، وعلى أن السيد حسن نصرالله رجل الساعة، ورجل كلّ الفصول، لا بل أرفقنا أسماء الضبّاط المقيمين في عنجر بألقاب لم يحظ بمثلها الجنرالات الفرنسيّون في الحرب العالميّة الأولى. وفي ظلّ وضع كهذا، مثّل غسّان مطر مسيحيّي الأشرفيّة، وكاد نزار الحلبي يصير مفتي الجمهوريّة، وعُهد الى السوريّين القوميّين - وهم مع laquo;وحدة الأمّةraquo; وضدّ الصراعات الطبقيّة التي laquo;تفسّخهاraquo; - بالاتّحاد النقابيّ. وقس على ذلك ممّا سبق اغتيال رفيق الحريري والسياسيّين والصحافيّين الذين قضوا. وطبعاً أُسكتت، على نحو أو آخر، الأصوات النادرة التي تجرّأت، في زمن الكبت والتواطؤ الجماعيّ مع الكبت، على التشكيك بالمردود الداخليّ لسلاح المقاومة، وعلى القول إن تسلّح طائفة واحدة يكفي لتسلّح باقي الطوائف، أو لإبقاء شهيّتها للسلاح مفتوحةً تنتظر الظرف الملائم.

وهذا جميعاً، مصحوباً بالاستعداد الخصب المقيم في مجتمعنا، ينتج اليوم حالة الانفجار والتشظّي رعباً يربط كلّ منطقة بأخرى، وكلّ جماعة داخل المنطقة الواحدة بالجماعة المقابلة، باعثاً الى الحياة نوىً ميليشيّة وقنّاصين على السطوح وأسئلة قاتلة عن الهويّة.

وغنيّ عن القول إن الذين يرون شيئاً من laquo;القضيّةraquo; في هذا العود على البدء الأوّل، لا يريدون أن يسمعوا بمحاولات الإيرانيّين، منذ 2003، التوصّل الى تسوية مع الولايات المتّحدة يدفعون هم أكلافها. وهم لا يريدون أن يقرأوا laquo;هآرتزraquo; وما أوردته عن اتّصالات سوريّة - إسرائيليّة تتمّ، بالضرورة، على حسابهم.

وهؤلاء ليسوا، بالتأكيد، laquo;حفنة انقلابيّة ضئيلةraquo;. إنّهم بعض شعبنا، وهم بعض منه كبير. وهنا الطامة الكبرى.