محمد بن عبداللطيف آل الشيخ
العفو الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- حيال العقوبة التعزيرية التي أقرتها المؤسسة القضائية في المملكة على فتاة القطيف، تحملُ الكثير من الأبعاد. فهي - أولاً - تنم عن ملك يقف بين أبناء شعبه موقف القائد والأب العطوف، دون تحيّز، أو موقف مُسبق لأي سبب كان. وهو بهذا العفو المبرر، كما جاء بوضوح في الخطاب الموجه منه -حفظه- الله إلى معالي وزير العدل الدكتور عبدالله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والذي تلاه معاليه في لقاء هاتفي تلفزيوني معه حول القضية، يؤكد أنه ملك الجميع، وأب الجميع، الراعي لشؤونهم، والذي يتعامل مع قضاياهم تعامل الذي يُقدّر (المآلات) بحكمة، ويتلمّس (مصلحة) الوطن والمواطن، فيضع قراره مواكباً لها، مُنسجماً مع متطلباتها.
والذي يجب أن ندركه أننا نعيش في عالم تداخل بعضه مع البعض الآخر، وتقاربت أجزاؤه، وأصبحت (القرية الكونية) تتحقق فعلياً وتتأكد على أرض الواقع يوماً بعد يوم، كما أصبحت مُتطلبات التعايش مع واقعنا الجديد تحاصر الكثير من المفاهيم المراعاة في السابق، وأهم هذه المفاهيم مفهوم (الخصوصية) التي ما زال البعض منا يتعامل على أساسها، ومتذرّعاً بها - مشكلة (هؤلاء) أنهم ما زالوا يظنون أن شيئاً لم يتغيّر، وأن ما كان صالحاً في الماضي ما زال يصلح للحاضر، وأن مراعاة الظروف والواقع العالمي (الجديد)، والمتغير، عوامل يجب (ألا نأخذها) بعين الاعتبار، ولا نلتفت إليها.. ضيق الأفق هذا لا يمكن أن نقبله، فنحن جزء من هذا العالم، نؤثر فيه بقدر ما يجب - أيضاً - أن نتأثر به - وحينما لا نأخذ هذه (الجزئية) بعين الاعتبار، معنى ذلك أننا نُضحي بمصالحنا على المدى القريب والبعيد معاً. وهذا ما يُراعيه (فقه المآلات)، الذي لا أرى بعضنا - للأسف الشديد - يتعامل معه كما ينبغي.
يقول ابن القيم رحمه الله: (الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد. وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها. فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل) لذلك فعندما تتناقض بعض التفسيرات (الفقهية) مع مصالح العباد، ومقتضيات تعايشهم مع واقعهم، فالعلة ليست - على وجه الإطلاق - في الشريعة، وإنما في اجتهادات (البعض) وتأويلهم للنصوص.
ويقول الدكتور يوسف القرضاوي: (الإسلام - مع مثاليته الرفيعة - يُعالج الواقع كما هو، بخيره وشره، وحلوه ومره، ويُجيز استعمال المكر والدهاء مع أهل المكر والدهاء، ويقول: (الحرب خدعة)، ويرى أن الضرورات تبيح المحظورات، وأنه يجوز في وقت الضيق والاضطرار، ما لا يجوز في وقت السعة والاختيار. ومن قواعده: ارتكاب أخف الضررين، وأهون الشرين، واحتمال الضرر الخاص لدفع الضرر العام، وقبول الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما. وكلها من النظرة الواقعية التي هي من خصائص الإسلام وشريعته).
وعن محامي فتاة القطيف عبدالرحمن اللاحم يقول معالي وزير العدل الدكتور عبدالله: (تردد أخيراً أن هناك سحباً أو إلغاء لرخصة المحامي الذي ترافع في هذه القضية، وهذا ليس له أصل؛ فالمملكة العربية السعودية تتم فيها القرارات عن طريق (مؤسسات)، وعندما صدر نظام المحاماة أسس لأسلوب المحامي عندما يحدث خطأ منه تجاه أفراد أو تجاه المجتمع؛ وبالتالي فإن معاقبة أو مؤاخذة محام (أي محامي) لا تكون نتيجة رد فعل أو (انفعال) وقتي، وإنما تأتي من خلال عمل مدروس وهي لجنة مؤسسة بالوزارة يتقدم لها إما المدعي العام أو الأفراد. وتنظر هذه اللجنة في وضع المحامي وإبقاء الرخصة في يده أو سحبها منه أو معاقبته بالعقوبة التي تراها).
بهذا الفكر، وهذا الأفق، وهذه الأبعاد، وهذه المرونة، تعامل خادم الحرمين وحكومته مع هذه القضية، فكانت المصلحة في العفو، وانتهت هذه القضية الشائكة هذه النهاية السعيدة.
التعليقات