علي حرب
في مؤتمر الحوار بين المذاهب الاسلامية، الذي عقد في الدوحة، جرى سجال حامٍ بين الشيخين يوسف القرضاوي ومحمد على التسخيري، على ما قرأنا ذلك في الصحف التي غطت وقائع المناظرة.
ومن وجوه هذا السجال تبادل الاتهامات بين الشيخين، خاصة من جانب القرضاوي الذي اتهم إيران بسعيها إلى نشر المذهب الشيعي في بلدان أو مناطق سنية خالصة، أي أنه نوع من الغزو الشيعي المذهبي للسنة في معاقلهم وعقر دارهم.
وكان جواب التسخيري الهروب من المشكلة إلى الأمام بالحديث عن مخاطر الاستعمار وإسرائيل. وهذا ما قاله آخرون اعتبروا أن الفتنة بين المسلمين في الداخل تلهيهم عن مواجهة العدو في الخارج.
ومع تقديري للشيخين ولما يرمز إليه كل منهما في بيئته وعالمه، فإني أخالفهما الرأي حول ما آلت إليه أحوال العلاقة بين المذهبين، على وقع الحرب الأهلية الناشبة في العراق، والتي تهدد بالانفجار في أماكن أخرى، إذ هي تشهد على أن العلاقة بين السنة والشيعة هي اليوم في أسوأ حال عما كانت عليه خلال قرون.
وهكذا فقد تساجل الشيخان، لكي يرمي كل منهما المسؤولية على الآخر، فيما كان المفروض والممكن هو طرح سؤال الحقيقة الصارخة والواقع المرير: لماذا تندلع الحرب المذهبية وتستيقظ الفتنة النائمة من حيث لا نحتسب، بعد عقود من مؤتمرات التقريب والحوار بين المذاهب؟
وجوابي، أي تشخيصي للآفة، أننا ندير الحوار بمفاهيم ومناهج أو برامج تسد أبوابه، بقدر ما تفضي إلى تمزيق نسيج المجتمعات العربية.
وأبرز هذه المفاهيم هو مفهوم (التسامح) الذي يلغّم الحوار قبل أن يبدأ، لأنه يعني التساهل مع الآخر، ولكن مع الاعتقاد بخطئه أو بالانتقاص من إيمانه وربما من إنسانيته. وليعذرني القارىء إذ أكرر القول بأن (التسامح) هو مجرد هدنة بين فتنتين، سواء في ما يخص العلاقة بين السنة والشيعة أو بين المسلمين والمسيحيين. ولذا لا حوار ينجح ما دام كل فريق يعتقد بأنه يجسد وحده دون سواه الاسلام الأصولي الصحيح. فما يفتح الإمكان أمام الحوار المثمر والبناء هو (الاعتراف المتبادل) الذي يحمل كل طرف على التخلي عن احتكار المشروعية الدينية، لكي يقر بأن للآخر مشروعيته وقسطه من الحقيقة والإيمان والهداية والاستقامة...
بهذا المعنى، ليست مشكلة كل طرف مع الآخر، بل مع ذاته. وعندها يصبح المطلوب، بدلاً من تبادل التهم والمساوىء، اجتراح الآفاق ومد جسور التواصل لإتقان فن التداول والتبادل للخبرات والمعارف أو المنافع.
الأمر الثاني الذي يتناساه المشتغلون بالتقريب بين المذاهب، والذي تجدر مناقشته وتسليط الضوء عليه بالدرس والتحليل والتقييم، هو سعي الدعاة من الفريقين، لأسْلَمَة الحياة، بتحويل الدين إلى نظام شامل يهيمن على كل نشاطات المرء ومساعيه وعلى كل حركاته وسكناته من المهد إلى اللحد.
وقد أدى هذا الاتجاه إلى تحويل المؤسسة الدينية إلى نظام شمولي عمل على تقويض حريات الأفراد وابتلاع حقوقهم، بقدر ما أفضى إلى الختم على العقول والأجساد وإلى عسكرة المجتمعات بحيث أن الهوية الثقافية للمسلم تحولت إلى مصنع للإرهاب، أو إلى محكمة للتهمة والإدانة والمعاقبة.
ومن الفاضح في هذا الخصوص أن المنظمة الإسلامية التي تسلمت السلطة في الصومال قبل سنوات، قد اختارت اسم ldquo;المحاكم الإسلاميةrdquo; عنواناً لحكومتها أو لبرنامجها، وكأنها أتت فقط لكي تدين الناس وتحاكمهم. مع أن مهام الحكومة هي أوسع وأيسر وأغنى من ذلك بكثير، إذ هي تقوم على الرعاية والحماية والتدبير... أما المحاكم فهي وجه من وجوه عمل الحكومة لا غير. وقديماً قيل بأن المجتمع الصالح أو السعيد هو الذي لا يحتاج إلى قضاة.
ولنقارن بين العنوان الذي اختاره الإسلاميون في الصومال، والعنوان الذي اختاره الحزب الإسلامي الحاكم في تركيا، فقد أطلق هذا الأخير على نفسه اسم حزب (العدالة والتنمية)، جامعاً بذلك بين عنوان قديم وعنوان حديث. وهكذا نحن هنا إزاء نموذجين: النموذج التركي الذي نجح بقدر ما تعاطي أصحابه مع الهوية على سبيل الانفتاح والاغناء والتجديد. أما النموذج الصومالي فقد آل إلى ما آل إليه من الفشل والتخلف والفساد والإرهاب، شأنه بذلك شأن أكثر الدعوات والبرامج التي عملت بها المنظمات الأصولية التي تعاطت مع هويتها بعقلية مغلقة أو متحجرة أو اصطفائية أو عدوانية...
وهذا مآل الأسلمة الشاملة للحياة: أن يترجم العمل الديني بما يفضي إلى عكس المطلوب، أي إلى الانقلاب على الشعارات، وإلى تخريب القضايا التي يدافعون عنها، لكي نصل إلى المأزق الذي تتخبط فيه المجتمعات التي تعمل تحت يافطة العمل الديني، أو التي تقام فيها انظمة سياسية باسم الإسلام.
وليست المسألة مسألة فشل في التطبيق، وإنما هم يحصدون ما زرعوه في العقول والنفوس من الأفكار والمفاهيم، بعد ثلاثة عقود من العمل الديني احتل فيها الدعاة المنابر والمساجد والشاشات.
والفكاك من هذا المأزق يحملنا على أن نعيد الأمور إلى نصابها، بحيث لا يعامل الدين كدولة أو حكومة أو حزب سياسي أو برنامج اقتصادي، بل كمنظومة رمزية أو سلطة معنوية أو رصيد ثقافي، أي كممارسة للتقوى، أو كحد رادع بين الإنسان ونظيره. بهذا المعنى يشكل الدين إحدى المشروعيات المجتمعية، بين مشروعيات أخرى، أي دائرة من دوائر المجتمع أو حقل من حقول العمل والانتاج، أو فاعلية من الفاعليات، شأنه بذلك شأن سائر الدوائر والحقول والقطاعات الفاعلة، كالاقتصاد والسياسة والفن والأدب والعلم والتقنية...
هذا هو الدرس المستفاد من انسداد أبواب الحوار: إعادة النظر في مفاهيمنا الضيقة ومناهجنا القاصرة ومقولاتنا المستهلكة، بحيث نتخلى عن استراتيجية الرفض والاستبعاد المتبادل، بين القوى والمشروعيات، للتمرس بسياسة الاعتراف المتبادل، القائمة على تعددية المجالات والحقول والدوائر والمذاهب أو الأنماط و النماذج، التي تنفصل بقدر ما تتصل، ضمن نظام مركب من الوصل والفصل، لكي تتفاعل فيما بينها على نحو يتيح بمنطق الشراكة والتسوية، بناء صيغ للتعايش حضارية أو مدنية، في أطر سياسية أو وطنية أو إقليمية أو عالمية.
أما أن يدار العمل الديني بمنطق أحادي، شمولي، عنصري، قائم على الاحتكار والمصادرة والإقصاء، فمآله الحروب الطائفية التي ندعي محاربتها، ليس فقط بين سنة وشيعة، بل داخل كل مذهب، كما شهدت النزاعات الدموية والانشقاقات الأخوية المدمرة على غير ساحة .
- آخر تحديث :
التعليقات