الأثنين 5 فبراير 2007

راشد صالح العريمي

بات من المعتاد في آخر كل شهر أن تتسابق جهات رسمية، ومنظمات حكومية وغير حكومية، في العراق وخارجه، للإعلان أن الشهر المنقضي قد ضرب رقماً قياسياً جديداً في عدد الضحايا المدنيين الذين حصدتهم آلة العنف المجنونة في العراق. ولا يبدو للأسف، أن ثمة سقفاً واضحاً يمكن أن تقف عنده أرقام ولوائح الضحايا، وسياسة quot;عد الجثثquot; هذه، طالما أن الجميع في العراق مختلفون على كل شيء، سوى على الاندفاع لتغذية المواجهات والحرب الأهلية بالمزيد من الضحايا. والأخطر من كل هذا أن تلك الإحصائيات المفزعة قد لا تعبر بالضرورة عن الرقم الحقيقي للقتلى، طالما أن اعتبارات كثيرة تتدخل في آلية العد، وخاصة quot;الجثث المجهولةquot;، التي تفلت عملياً من كل تصنيف، وربما تبقى بذلك خارج هذه الإحصاءات المروعة الموجعة، التي تدمي القلوب حقاً. والملفت في الفترة الأخيرة أن مارد العنف بدأ يعشش ويفرخ في quot;مدينة السلامquot; بغداد، تحديداً، بعد أن كان في ظروف معينة سابقة يتركز بخطورة أكبر في أجزاء أخرى متناثرة من خريطة بلاد الرافدين. وربما يكون لتركيز التغطية الإعلامية في العاصمة دخل في إبراز عنفها هي على حساب تغطية عنف المحافظات، لكن هذا لا يعني بأي وجه التقليل من أهمية ومحورية ما بات يعرف بـquot;معركة بغدادquot; في مجمل الحرب الدائرة في العراق الآن.
في فترات سابقة كان يقال إن الحرب القائمة أو العنف، هي بين بقايا النظام السابق من جهة، وقوات الاحتلال والقوات الدولية الأخرى. وفي مرحلة لاحقة تحول الحديث إلى القول إن الاقتتال هو في الواقع بين الميليشيات السُّنية والشيعية، وإنه بات هو جوهر المشكلة، وهذا الطرح هو العمود الفقري لـquot;نظرية الحرب الأهليةquot;، التي أقرت أخيراً الاستخبارات الأميركية في تقرير لها صدر قبل أيام بأن ملامح كثيرة منها يمكن تبيُّنها وملاحظتها الآن بوضوح في عاصمة الرشيد. أما الآن فإن خرائط العنف اختلطت حقاً في العاصمة بغداد إلى حد باتت معه كل التصنيفات السابقة لأنواع المواجهة الحاصلة غير عملية. فالقصف الأعمى لأحياء معينة مختلطة مذهبياً، والتمزق والتهتك البنيوي حتى داخل المليشيا المنفلتة الواحدة نفسها، والتنافس على السيطرة على مواطئ قدم من أحياء العاصمة بين أبناء المذهب الواحد، كل ذلك جعل quot;معركة بغدادquot; حرباً أخرى مختلفة، تدور بقواعد اشتباك جديدة عن كل ما دار من معارك حتى الآن.
ومع إخفاق الكثير من الخطط السابقة لـquot;تأمين بغدادquot; التي أعلنت عنها حكومة المالكي، وبفعل استمرار الفرز والتطهير الطائفي على قدم وساق وتنامي موجات النزوح واللجوء والتهجير المذهبي، بات الأميركيون بدورهم يتحدثون أخيراً عن أهمية ما ستؤول إليه أحوال العاصمة العراقية، وأثر ذلك على مجمل مشروعهم العراقي، إن لم نقل الشرق أوسطي كله. وفي هذا السياق وحده يمكن أن نفهم خروج الأميركيين بكل ذلك التصميم لخوض quot;المعركةquot; وبالقوة الغليظة الخشنة بمختلف أشكالها.
وبقدر محورية quot;معركة بغدادquot;، وبالنظر إلى استمرار النزيف العبثي من الأرواح في شوارعها، لا يبدو أن أحداً، في واشنطن أو بغداد، يمتلك اليوم مقاربة تعيد لمدينة السلام، جزءاً، ولو يسيراً من أجواء السلام والتعايش والأخوة والمحبة بين أبنائها، لذلك تتسابق الأطراف العراقية الكثيرة المكونة للحكومة لتكثيف جهودها، وبمختلف الوسائل، لكسب quot;معركة بغدادquot; بالذات، ولتعظيم مكاسبها في العاصمة تحديداً، حتى إذا رحل الأميركيون يوماً ما تكون السيطرة قد تمت على بغداد، بحكم الأمر الواقع، إن لم نقل بقوة سياسة quot;وضع اليدquot;. وفي ضوء كل هذا فلا غرابة أن تكون معركة بغداد هي الأكثر إيلاماً حتى الآن، وبالتالي فليس وارداً أن تقف لوائح الضحايا والجثث المجهولة عند سقف معين. والله المستعان.