الثلاثاء 13 فبراير 2007

أ.د. محمد الدعمي

لا ريب في أن الذين سمعوا بـquot;الزعيم عبدالكريم قاسمquot; من القراء العرب لا يتجاوز عددهم إلاّ رقماً صغيراً. وهم في غالب الأحوال من الذين تجاوزوا السنة الخامسة والخمسين من أعمارهم، ومن الذين كانوا يهتمون على نحو خاص بالشأن العراقي في وقت لم تكن فيه وسائل الإعلام متوفرة في الفضاء العربي، اللهم باستثناء هيئة الإذاعة البريطانية الـBBC وصوت العرب من القاهرة. وإذا كان جل هؤلاء الذين يدق ذكر quot;الزعيمquot; شيئاً في ذاكرتهم هم من السياسيين أو الضباط المتقاعدين الحالمين بدور يشبه دوره، فإن ما يحتفظون به اليوم نحو هذا العنوان قد لا يزيد عن أن هذا الرجل هو مؤسس الجمهورية العراقية عام 1958. أما في العراق، فإن الوضع مختلف تماماً، ذلك أن quot;الزعيمquot; إنما يشكل هالة من المعاني والدلالات السامية المتمثلة بالعدالة ونصرة الفقراء والوطنية، إلى آخر قائمة السجايا الطيبة. هذا يصح حتى على الأطفال والشباب الذين تولى آباؤهم وأمهاتهم مسؤولية نقل حقائق التاريخ المعاصر لهذه البلاد من جيل لآخر. أما كيف تذكر الأميركان الزعيم، فهذا سؤال من أصعب الأسئلة في خضم هذه المرحلة الحساسة من تاريخنا الحديث.
وإذا كان المرء ينسى، فإنه لا يمكن أن ينسى quot;الغزوquot; الإعلامي الأميركي الذي رافق دخول القوات الأميركية بغداد بمعية عشرات أو مئات الصحفيين والمصورين ومقدمي البرامج الذين كانوا، وقتذاك، يتنقلون في شوارع بغداد وبين منازل العراقيين بحرية مطلقة. واحد من هؤلاء الصحفيين سألني ذات مرة عن شخصية quot;رجل حكم العراقquot; اسمه quot;البريغادير قاسمquot;، بمعنى الزعيم عبدالكريم قاسم، ثم أردف سؤاله عن سر تعلق الجمهور به. وكان هذا السؤال قد دق في ذهني جرساً حول عملية quot;الاستعراقquot; التي لاحظتها في مقالتي لـ(الوطن) quot;من الاستشراق إلى الاستعراقquot; (23/1/2006) حيث الحملة الأميركية الشاملة لمعرفة كل شيء عن العراق. كما أن هذا الاستفهام ذكرني بكتاب المفكر حسن العلوي المعنون (العراق الأميركي)، وهو الكتاب الذي حاول فيه العلوي، وبذكاء وفطنة، تحقيب تاريخ العراق من quot;العراق السومريquot; إلى quot;العراق الأميركيquot; مروراً بالحقب الأخرى كـquot;العراق العراقيquot;. أما الذي قصده العلوي بالعراق العراقي فهو لا يزيد عن فترة قصيرة جداً لا تزيد عن أربعة أعوام ونصف العام كان فيها الزعيم على رأس السلطة ببغداد. ومع هذا فإن هذه الفترة الوجيزة قد مثلت، برأي العلوي، المرحلة الوحيدة في تاريخ أقدم أرض في العالم التي شهدت هيمنة أبناء البلد على بلدهم، بكل وطنية أو quot;عراقيةquot;.
قصة قاسم ذات شجون بالنسبة للنفس العراقية، وعملية تكرار فضائل هذا الزعيم الأمين لا مكان لها هنا. ولكن أن يتذكر الأميركان الزعيم ببرنامج وثائقي مصور يهز مشاعر العراقيين هو ما يستحق ملاحظة المراقب ذي الوعي الإعلامي. لقد قدمت فضائية (الحرة/عراق) برنامجاً لمدة ساعة كاملة عن الزعيم يوم 8 فبراير، ثم أعادت بثه صباح يوم 9 فبراير. فإذا كان الأميركان لا يعرفون قاسم، وأنه لم يكن حتى عام 2003 سوى اسم غامض المعاني، كيف تسنى لهم في هذه اللحظة التاريخية أن يعرفوه ويمتدحوه ويميطوا اللثام عن فضائله؟
إنه سؤال يستحق الملاحظة بحق. ربما كان اسم الزعيم حبيساً في الملفات القديمة للخارجية والمخابرات المركزية الأميركية العائدة إلى مرحلة 1958ـ1963. وربما كان البرنامج من تحرير ومساندة عدد من المهتمين والمختصين العراقيين. ولكن كيف عاد الأميركان، الذين أوعزوا بإنتاج هذا البرنامج المؤثر عاطفياً، إلى خزائنهم وأرشيفاتهم كي يظفروا بغلاف مجلة (تايم) Time التي صدرت في تلك الحقبة مع صورة عبدالكريم قاسم عليه؟ هذا يعني أن الإعلام الأميركي الموجه نحو العراق يدار بحذق وبخبرات عالية ورفيعة تعرف، بكل دقة، من أين تؤكل الكتف، كما يقال. علماً بأن مثل هذا البرنامج أو عملية تحضيره التي تحتاج إلى الأموال والمثابرة للظفر بما تبقى من الأفلام عن حياة قاسم ودوره في تاريخ العراق، إنما هي أنشطة ذكية ومدبرة، ترينا خطورة الإعلام وأهمية دوره في تشكيل الرأي العام.
لقد أدرك العقل الأميركي أن برنامجاً وثائقياً كهذا يأسر الجمهور العراقي، وإن عملية بثه في أربعينية الرئيس السابق صدام حسين، إنما لها دلالات بعيدة وشديدة الوطأة على المتلقين في العراق، خاصة وأن البرنامج لم يُخفِ هذه الرسالة الإعلامية لمصمميه عندما أكدوا على المقارنة والمضاربة بين صورة الزعيم العفيف والنبيل ومنجزاته العظيمة وبين ما جرى من عمليات سيئة لانتحال هذه المنجزات وتجييرها لسواه ممن حكم العراق منذ يوم إعدام قاسم في 15 رمضان عام 1963 على أيدي ثلة من الانقلابين كان على رأسهم quot;قائد الحركة القومية العربيةquot; علي صالح السعدي، (وهو كردي!) لا يمت للعرب وللعروبة بصلة.
لقد استثمر العقل الإعلامي، وربما الاستخباري، الأميركي يوم 8 فبراير، اي يوم نجاح الانقلاب على الزعيم كمناسبة مثالية لاستثمار هذه الشخصية الفذة في تاريخ العراق. أما الدوافع، فلا تقل فطنة، خاصة مع حاجة الإدارة الأميركية في العراق إلى تسكين الصراعات والاقتتالات الطائفية والاثنية، الأمر الذي برر الارتجاع إلى التاريخ لاستلال صور مشرقة منه تساعد على تحقيق هذا quot;التسكينquot; المطلوب أميركياً وعراقياً اليوم. شخصية الزعيم، بكل بهائها، تعد أكثر الشخصيات الوطنية أهمية، زيادة على أن الرجل كان نزيهاً، لم يتهم قط بأية رذائل من النوع الذي انتشر في العراق عبر السنوات الأخيرة. زد على ذلك أن هذه شخصية مركبة، شيعية / سنية، الأمر الذي جعل منه رمزاً وطنياً اشبه ما يكون بتوازي دجلة والفرات عبر مرورهما بوادي الرافدين العظيم.
بيد أن علينا أن نستذكر أن هذا الحب الرومانسي الأميركي لقاسم إنما هو حب طارئ وانتهازي، ذلك أن الولايات المتحدة الأميركية، مع بريطانيا، قد ساهمت بكل قوة في القضاء عليه، الأمر الذي برر قول الانقلابي السابق الذكر، علي صالح السعدي، بـquot;أننا جئنا على قطار أميركيquot; للقضاء على نظام الزعيم قاسم. لقد كان الرئيس جون كنيدي من أكثر المناهضين لزعامة قاسم في العراق، بينما كان السوفييت آنذاك من أكثرهم تأييداً له، الأمر الذي دفع بـquot;نيكيتا خروشوفquot;، زعيم الاتحاد السوفييتي آنذاك، إلى وصف إعدام قاسم بأنه quot;سقوط عمود السلام في الشرق الأوسطquot;. هذا لا يعني أن قاسماً كان متعاوناً مع السوفييت، ذلك أنه، عندما كان محاصراً في وزارة الدفاع من قبل دبابات الانقلابيين، رفض عرضاً سوفييتياً بالإنزال لإنقاذ الموقف، قائلاً بأننا حررنا العراق من البريطانيين، فكيف نسلمه للروس؟
هذه هي عدالة السماء مجسدة في شخصية الزعيم عبدالكريم قاسم الذي كان ذكره أو ذكر كلمة quot;الزعيمquot; من المحرمات التي تدفع المواطن إلى السجن عبر عقود من الزمن والأنظمة الشمولية التي توالت على العراق. اليوم تنقلب دوائر التاريخ، ثم يعود قاسم بطلاً وطنياً، يمجده أعداؤه متوسلين شخصيته الفذة أداةً لتحقيق أهداف سياسية مؤقتة وعاجلة.