الخميس 15 فبراير 2007


جميل مطر

سمعت الوزيرة السابقة في حكومة حزب العمال كلير شورت تقول عن توني بلير إنه ldquo;جعل العالم مكاناً أشد خطورة وأكثر انقساماًrdquo;، وأسمع لكثيرين في الولايات المتحدة يقولون إن الرئيس جورج بوش سيترك منصبه بعد أقل من عامين مخلفاً وراءه عالماً شديد التوتر والخوف.

الاثنان، بلير وبوش، محاصران في منصبيهما بمعارضة أظن أنها الأقوى في التاريخ الحديث لحكومات الدولتين، أو على الأقل منذ عهد حكومة المحافظين في بريطانيا التي كان يقودها أنطوني إيدين، وعهد حكومة الجمهوريين في الولايات المتحدة التي كان يقودها ريتشارد نيكسون. في الحالتين خرج الزعيمان منكسرين، أحدهما بسبب تهوره في مغامرة عسكرية بتكلفة فادحة والثاني بسبب تجاوز القانون في التعامل مع المعارضين، وهو التجاوز الذي كلفه منصبه ودفعت الولايات المتحدة من سمعتها السياسية ثمناً باهظاً.

أما وقد ارتكب بلير وبوش أخطاء وتجاوزات أشد شأناً مما ارتكبه إيدين ونيكسون، يصبح منطقياً استغراب الناس لاستمرار الاثنين في منصبيهما، بل وعنادهما وتشبثهما بأخطائهما وتجاوزاتهما. لقد تسبب كلاهما في خسائر لبلديهما وسمعتهما الدولية أكثر بكثير من الخسائر التي تسبب فيها إيدين ونيكسون في زمانهما. ومع ذلك نرى عناد الرئيس الأمريكي يشتد مع كل موجة جديدة من موجات المعارضة الدولية والداخلية له. خرج من الانتخابات في الخريف الماضي بهزيمة للحزب الجمهوري هو مسؤول عنها مسؤولية كاملة، لم يؤنبه الحزب أو يطلب توقيفه مثلما فعل المحافظون مع إيدين والجمهوريون مع نيكسون. ولم يعترف بأنه كان مقصراً في إدارة الصراع في العراق وفاشلاً في قيادة العالم ومحبطاً أمل حلفائه في القوى اليمينية الدينية والصهيونية الصاعدة في أمريكا في صنع عالم جديد يسير في فلك الإمبراطورية الجديدة.

مازال الرئيس بوش يتحدث بلغة المتدينين الأصوليين عن الشر ومحاوره، ويطور نظريته عن الإرهاب بعد أن جعله إسلامياً ونصب القاعدة نموذجاً ورمزاً له قبل أن يقرر أنها قاعدتان، إحداهما سنية والأخرى شيعية. ومازال الرئيس يرفض مشاركة الدول الكبرى الأخرى في صنع القرار الدولي، ويرفض الانضمام إلى الاتفاقات الدولية خشية أن تحد من حريته في الحركة. ومازال حريصاً على فتح جبهات حرب جديدة حتى بعد أن أصاب الجدب معين الجند في أمريكا.

وعلى الناحية الأخرى من الأطلسي مازال توني بلير يصر على النهج الذي اتبعه في إدارة سياسة بلاده الخارجية. بل إنه وقد قرر، أو أجبر على، تحديد موعد يتخلى فيه عن منصبه لقيادة عمالية جديدة، مازال يعلن في كل مناسبة خطابية أنه يدعو خلفاءه لمواصلة استخدام القوة في السياسة الدولية. يقول، ويردد بكل فخر، إن إنجلترا تحتفظ بقوات عسكرية في إفريقيا والشرق الأوسط، وإنها يجب أن تكون مستعدة دائماً لإرسال قوات إلى أماكن أخرى. ثم خرج مؤخراً بخطاب يقول فيه.. ldquo;إن حدود أمتنا (البريطانية) لا تقف عند القنال الإنجليزي. فما يحدث في الشرق الأوسط يؤثر فينا، وكذلك ما يحدث في باكستان وإندونيسيا والسودان والصومالrdquo;. وأضاف أن ldquo;قواتنا المسلحة ستنتشر على أراضي أمم بعيدة، حتى وإن كانت لا تمثل خطراً مباشراً على أمننا، حدودنا الجديدة هي حدود العالمrdquo;.

أما ونحن نعرف أن الاثنين منهزمان بدرجة أو بأخرى، فقد اشتد فضولنا لمعرفة سر هذه الثقة المتناهية في النفس لدى كل من الرجلين. أنقول إنهما مثل أكثر الزعماء لا يريدان التخلي عن السلطة ويتمسكان بالمنصب والقيادة؟ الواقع يقول شيئاً آخر. فالرجلان حددا أو يعرفان موعد رحيلهما باليوم والساعة، ولا أمل وربما لا رغبة لأي منهما في البقاء يوماً إضافياً. أنقول إنهما خاضعان لمصالح قوى وأطراف مستفيدة من استمرار الحرب ضد الإرهاب وضد العراق وأفغانستان وغيرها من الحروب، وأن كلا منهما يأمل في مستقبل لشخصه وعائلته مرتبط بهذه المصالح القوية، أو أنه مؤمن حقيقة بأهمية هذه المصالح للوطن؟ نسمع أن بوش يعتقد حقيقة أنه مبعوث قوى إلهية لإنقاذ البشرية من عناصر الشر ولنشر الديمقراطية والحرية، ولذلك فهو غير مكترث بالمعارضة. ولكن لم نسمع أن بلير زعم يوماً أنه مبشر بعقيدة أو مخلص للإنسانية.

أنقول إن العالم، والقوى الكبرى خاصة، لم يفرز في العقود الأخيرة زعامات على درجة عالية من الكفاءة تستطيع التصدي لحجج الزعيمين البريطاني والأمريكي بحجج أقوى في مصلحة السلام العالمي والرخاء الدولي وتنشئ تجمعاً جديداً يضم ldquo;الدول الحكيمةrdquo;، وأن كلا من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لم تفرز زعيماً مؤهلاً في الحزب الحاكم أو المعارض لردع هذا الزعيم وذاك؟

أم نقول إن النظام الدولي، بوضعه الراهن، لا يقدم البديل المناسب للهيمنة الأمريكية؟ فالنظام مازال معلقاً بين القطبية الأحادية والقطبية المتعددة، تشده واشنطن بقيادة بوش الأب ثم الابن ولندن بقيادة بلير بسياسات أقرب إلى العنف والغطرسة في اتجاه القطبية الأحادية. وتشده موسكو وبكين وفرنسا والهند بسياسات توافقية ومهدئة وخطوات متدرجة في اتجاه القطبية المتعددة، والواضح، لنا على الأقل، هو أن القيادتين الحاكمتين في واشنطن ولندن واثقتان من أن الدول الساعية إلى القطبية المتعددة مستعدة لمسايرة السياستين الأمريكية والبريطانية إلى أبعد حد ممكن حرصاً منها على عدم تعطيل خططها لاختصار مراحل الرحلة الطويلة إلى مواقع القيادة والقوة.

أتصور أننا نعيش ldquo;أعلى مراحل التمسك بذيول الإمبراطوريةrdquo;. ولعله التصور المعقول الذي يمكن أن يفسر هذا العناد الغريب لكل من بوش وبلير. أتصور أنهما يعتقدان أن الولايات المتحدة كانت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق الحلم الإمبراطوري، ويشعران أن ظروفاً دولية وداخلية وقوى خارجية عطلت تحقيق الحلم، ولا يريدان أن يسجل التاريخ أنهما تصرفا في نهايات عهدهما بما يوحي بأنهما يعترفان بتقصيرهما في تحقيق الحلم الإمبراطوري. لذلك يأتي إصرارهما معاً على فتح جبهات جديدة في ldquo;الحرب ضد الإرهابrdquo; ونيتهما الرحيل بعد أن يتأكدا أن من يأتي بعدهما يلتزم بالقدر نفسه بحروب أخرى، فلا تكون حروبهما الناشبة حالياً آخر الحروب، ولا تحدث فور خروجهما تسويات سريعة تكشف عن تقصيرهما وتقضي نهائياً على الحلم الإمبريالي لعهدي بلير وبوش. لذلك يقول بلير في وصيته لخليفته جوردون براون ldquo;لكي تكون قادراً على استخدام القوة الناعمة يجب أن تكون مستعداً دائماً لاستخدام القوة الصلبة، ودعاه إلى الاستهانة بدول أخرى (يقصد فرنسا) التي تصر على الاكتفاء باستخدام القوة الناعمة.

لقد بدأت المعارضة البريطانية، داخل حزب العمال وخارجه، تحاسب بلير على ldquo;أعظم أخطائهrdquo;، وهي دفاعه المستميت عن علاقة بلاده بحكومة الرئيس بوش. سمعناه في الأيام الأخيرة يؤكد اعتقاده بأن معظم أوراق اللعبة الدولية في يد واشنطن وهي عبارة سمعناها كثيراً في عالمنا العربي قبل أن ينطق بها بلير. وسمعناه يقول، إنه سلك هذا المسلك، أي ربط إنجلترا بأمريكا، ليكسب مميزات لبلاده، وأنه بالفعل مدين لأمريكا بما حققه من إنجازات في الشرق الأوسط وإفريقيا وقضية الانحباس الحراري، وجاء الرد سريعاً من المعارضة التي بحثت ldquo;ولم تجد إنجازاً بريطانياً واحداً في أي مجال من المجالات الثلاثةrdquo;، وخرج بيتر كيلفويل وزير الدفاع الأسبق بتصريح قال فيه إن العلاقة البريطانية الأمريكية علاقة تسير في اتجاه واحد، أي لمصلحة أمريكا وليست لمصلحة بريطانيا.

أظن أن توصيف علاقة أمريكا ببريطانيا على هذا النحو يصلح لوصف علاقات أمريكا بالعدد الأكبر من الدول العربية.