الجمعة 16 فبراير 2007

نصر طه مصطفى

ليس هناك أبشع من الأثمان الباهظة التي يدفعها الأبرياء من دمائهم وأمنهم واستقرارهم لصراعات الدول والساسة، وهو ما يظل يتكرر باستمرار على مدار التاريخ حتى يومنا هذا، رغم كل التطور الذي حققته البشرية تجاه مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، بل وأحيانا تسال دماء الأبرياء باسم هذه المفاهيم التي يفترض أنها تطورت من أجلهم هم.. وهاهم العراقيون بعد أربع سنوات على الاحتلال وسقوط الدكتاتورية، لايزالون يبحثون عن هذه القيم على الرغم من أن الحرب التي شنتها الولايات المتحدة كانت باسم إعطاء هذا الشعب حريته وديمقراطيته وحقوقه، وعلى الرغم من أن الذين يحكمونه اليوم من أبناء جلدته كانوا أكثر المتضررين من الاستبداد وحكم الفرد، بل وكانوا أحد ضحاياه الرئيسيين على مختلف توجهاتهم السياسية والعرقية والمذهبية.

من الناحية العددية لم يعد هناك فارق بين عدد ضحايا عهد صدام حسين على طول عهده وضحايا العهد الحالي على قصره، إذا استثنينا بالطبع ضحايا حربي إيران والكويت.. فيما يؤكد كثيرون أن عدد هؤلاء الضحايا قد زاد بكثير عن عهد صدام، باعتبار أن المجازر الدموية أصبحت تجري الآن على مدار الساعة ولها طابع مذهبي طائفي لم يكن معهودا من قبل، ولم يعرفه العراقيون الذين تبدو هذه النعرات بالنسبة لهم شيئا غريبا وجديدا يلطخ وحدتهم وتاريخهم العريق، وكلما تقدمت الأيام ازداد مجرى العنف توسعا وعمقا، ووجد الناس أنفسهم يتساءلون لماذا وإلى متى سيظلون يدفعون هذا الثمن الباهظ لصراع لا ناقة لهم ولا جمل فيه ولا نهاية واضحة له على الرغم من كل الخطط الأمنية التي وضعها الأمريكيون والحكومة العراقية الحالية على السواء؟

ولم يقتصر الأمر على الوجبات اليومية من ضحايا المجازر الإرهابية الدموية، إذ شرع السياسيون في تنفيذ عمليات تهجير واسعة من، وإلى العديد من المناطق، بل وبدأ الكثير من المواطنين العرب المقيمين في العراق منذ عقود طويلة بالتعرض لمضايقات واسعة تستهدف ترحيلهم، مع أن صلاتهم ببلدانهم الأصلية قد انقطعت إما لأسباب سياسية أو معيشية أو اجتماعية أو غير ذلك، بحيث أصبحت عودتهم إليها مستحيلة.. ففي الآونة الأخيرة تعرض آلاف للتشريد والتهجير من المحافظات الشمالية ومن المحافظات الجنوبية، بحجة أنهم انتقلوا إليها خلال عهد صدام حسين في عمليات منظمة إما بهدف التعريب أو بهدف الاندماج الاجتماعي، حيث استقروا وتوطنوا هنالك منذ السبعينات ونشأ أولادهم وأحفادهم فيها، ومطلوب منهم اليوم أن يدفعوا ثمنا لعملية أرغموا عليها، فمن كان يجرؤ أن يقول لا لصدام في حينه أو يرفض أوامره التي كانت تنفذ بقوة الدولة؟

من المفهوم أن يعود من تم تهجيرهم من أرضهم رغما عنهم قبل عشرات السنين برضاهم وإرادتهم اليوم، فذلك حقهم الذي لا يجادل فيه أحد، لكن ليس من المفهوم أن يتم التهجير والتهجير المضاد لنفس السكان رغما عن أنوفهم ولأغراض سياسية ليس من شأنهم أن يتحملوا وزرها.. كما أن التهجير القسري قد يكون مفهوما عندما يتم في ظل نظام استبدادي دكتاتوري، لكنه بالتأكيد لا يمكن أن يكون مفهوما عندما يتم في ظل نظام يقول إنه ديمقراطي ويرعى حقوق الإنسان ويحترم الحريات، وهذا كله في ما يخص العراقيين الذين يتم تهجيرهم داخل وطنهم، فما بالك بمئات الآلاف من العراقيين الذين هاجروا من بلادهم إلى مختلف بلدان العالم بحثا عن الأمان ولقمة العيش؟

إن ما يجري في هذا البلد اليوم من أحداث مأساوية أصبح يفوق الخيال وفوق ما يحتمله أي وطن، وهو لا يقود إلا إلى نتيجة حتمية واحدة لن تقتصر على التقسيم فحسب، بل ستمتد بالتأكيد إلى عمليات فصل وتمييز عرقي وطائفي غير مسبوقة لن تقف عند هذا الحد بل سترافقها وتتبعها عمليات إبادة منظمة، فمن سيتحمل أمام التاريخ المسؤولية عن كل ذلك، هل الولايات المتحدة أم الحكومة العراقية الحالية التي كثرت وعودها بتحقيق الأمن والاستقرار دون أي جدوى؟

الجميع داخل العراق وخارجه يراقبون باهتمام ماذا سيسفر عنه إرسال عشرين ألف جندي أمريكي جديد إلى العراق، وماذا ستكون نتائج الخطة الأمنية الجديدة التي يروج لها نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي، والتي قال إنها ستشمل بغداد كلها وستبدأ في وقت واحد؟ فبعد أربع سنوات من سقوط النظام السابق فإن التشخيص لما يجري من عمليات إرهاب وقتل وسفك دماء على الهوية لم يعد عسيرا، لأن الذين يقومون بهذه الجرائم معروفون، والمناطق التي يأتون منها معروفة، وانتماءاتهم السياسية معروفة، وأهدافهم معروفة، ونمط عملهم معروف.. فهل عجزت الاستخبارات المركزية الأمريكية التي تمتلك في العراق أكبر مكاتبها وأكثر كوادرها في المنطقة عن محاصرة الإرهاب في مدينة بغداد وحدها مهما كان حجم المدينة؟ بالتأكيد ليس الفشل في مصلحة اليمين المحافظ الجمهوري الذي يحكم واشنطن اليوم، حتى لو كان يعتبر مصالح ldquo;إسرائيلrdquo; مقدمة على مصالح الولايات المتحدة.

إن إخماد كل هذه الفتن يبدأ من العراق البلد الكبير المؤثر في محيطه، والذي لن يتمكن أحد من ابتلاعه، والذين يتحكمون في إدارة هذا البلد اليوم هم الأقدر على انتزاع فتائل الألغام الموقوتة التي لم يعد بينها وبين الانفجار وقت بعيد.. فالسد المملوء بالمياه يدمر كل ما حوله عندما ينفجر ويتحطم، ولن يميز حينها بين الصديق والعدو.