الثلاثاء 27 فبراير 2007

د. طيب تيزيني

قد يرى بعض الباحثين وكثير من المهتمين أن quot;السوقquot; أصبح في العالم العربي واقعاً كثيفاً وفاعلاً، مع أن هذا الرأي يمكن أن يُعترض عليه، على الأقل، من باب استهلاكي اقتصادي مفاده أن القدرة الشرائية لدى مواطني هذا العالم لا تكفي لإنتاج مثل ذلك الواقع. بيد أن تقصّي الأمر يمكن أن يضع أمامنا من المعطيات ما يدلل على احتمال صحة الرأي المذكور، من ذلك أن اقتصاد الفساد والإفساد وسّع دائرة الفئات الاجتماعية، التي في متّسعها الوصول إلى المال عبر طرق متعددة ومتزايدة، ومن ذلك، كذلك، أن السوق التي تتحول إلى quot;رمزquot; للثروة والاستهلاك، تتحول في الوقت ذاته إلى حافز لاهثٍ للحصول إلى المال.
المهم في ذلك أن quot;عالم السوقquot;، الذي يتجلى بصيغ متعددة منها quot;اقتصاد السوقquot; وquot;الاقتصاد الحُرquot;، اللذان يسعيان إلى كسب إذنٍ بالدخول إلى السوق السلعية الكونية العولمية، لا يُفصح عن نفسه فيما يقدّم من أطنان من السلع المثيرة والبراقة فحسب، وإنما هو -كذلك- يظهر في العوالم التي يُنتجها في مخيّلات quot;المستهلكينquot; العاجزين عن تحقيق شروط الاستهلاك، وأوّلها تحقيق الشراء الفعلي، سواء كانت السلع المشتراة حاجات حقيقية لمشتريها، أم لم تكن. ومن ثم، مع اشتراك الطريقين المذكورين، في الرغبة الحثيثة والملتهبة للاستهلاك ولإعادة الاستهلاك، فإن عالماً جديداً تقام دعائمه وتأخذ آفاقه واحتمالاته في التوسع، بحيث يغزو quot;ضرورةquot; يتماهى معها الوجود الإنساني. ومع استمرار ذلك باطراد وبالتوافق مع آلة إعلامية quot;رسميةquot; وquot;شعبيةquot; تقتحم غرف نوم المستهلكين بالواقع والحالمين في المخيال، لتبثّ نمط من الثقافة القهرية من طرف، ومن الثقافة الاستهلاكية التلمُّظية الاستلابية من طرف آخر. وفي هذا وذاك، يتكون ما يجب أن يتكوَّن، كي تتحقق الأهداف التأسيسية الاستراتيجية، التي يأتي التالي في مقدمتها وفي مؤخرتها في آن واحد، ذلك هو: كلما ارتفعت قيمة الأشياء وعلت وأصبحت معيار النظر، هبطت قيمة الإنسان ودخل نفقاً يُفضي إلى العبودية والتسلّع والاغتراب.
في هذه الحال، ترتفع شكوى المثقفين والمفكرين والكتاب والفنانين وكثير من السياسيين لتعلن quot;موت الثقافةquot; وquot;انتهاء الكِتابquot;، بل كذلك موت quot;الإنسانquot; الذي ستُضفى عليه آنئذ صفات تُعتبر quot;ذهبت مع الريحquot;. ولعلنا نرى أن هذه الشكوى لا تنطلق من أوساط ثقافية عربية فحسب، وإنما كذلك من أوساط ثقافية غربية، مع الإقرار بالفروق القائمة بين الفريقين والمتحدِّرة من خصوصية البنية والتاريخ الخاصين بكلٍ منهما. وهذا يصح سواء تعلق الأمر بـquot;السوقquot; ذاتها، أو بالإيديولوجيا التي تنسجها حولها، ذلك لأن الناتج quot;الإيديولوجيquot; هو واحد هنا، بمعنى أوّلي محدد. وإذ نضع في الاعتبار قدرة سادةِ السوق على إيجاد جيوش من المسوِّقين لها، فإننا سنضع يدنا على أن الرمز والدلالة والكناية التي تثيرها quot;الروح السوقيةquot; في عواطف المستهلكين الفعليين والآخرين في الحلم والمخيال على مدى ممارسة سوقية مديدة ومطّردة، يمكن -بنسب ووتائر- عليا ومفتوحة أن تجعل مهمة إنتاج خطاب ثقافي تنويري حواري نقدي، أمراً عبثياً وغير ذي جدوى.
والسؤال الذي ينشأ من قلب هذه الحال ذات الطابع الإشكالي، قد يأخذ الصيغة التالية أو صيغة تقترب منها: هل يمكن -بالأساس- أن يعيش الإنسان هكذا مستهلكاً بالواقع أو بالإنابة عبر الإيهام والتوهيم، دون أن تتوهج في وجدانه وعقله شعلة ما قد تسمى quot;الكرامةquot; أو بـquot;التساميquot; أو بـquot;التمردquot;؟ ولما كان الإنسان -في مجمل مكوناته المجتمعية والديموغرافية والإثنية والثقافية الإيديولوجية- كائناً تاريخياً ذا حراك مفتوح، فإنه لابد أن يواجه من التساؤلات والإثارات الذهنية ما يجعله يقف أمام كونه مستهلكاً فعلياً (إنساناً اقتصادياً) أو وهمياً، حتى لو وصل إلى هذه المواجهة، دون التوقف عندها بنقدية فاعلة. والمسألة هنا تتصل بإمكانية الحديث عن فئات حيّة من المثقفين ذوي التطلعات التنويرية والحوارية النقدية النسبية، تتمكن من إنتاج حالة أو حالات من التغيير والإصلاح والتقدم، يداً بيد مع قوى حية أخرى تنشأ من منحدرات مجتمعية مختلفة، وتتلاقى على سبيل التعاون أو التقاطع أو التصادم، مما يُسهم في الخروج من نفق المياه الآسنة.
إن مثل هذا النفق يحكم الآن مجموعات واسعة من مختلف المصادر المجتمعية العربية، سواء أتت من الأعلى أو من الأدنى أو مِمّا بينهما، ضمن حراك متعدد الأنساق والتوجهات، ولكن مشترك في التوقف أمام أسئلة عمومية تتعلق بالكرامة والوطن والضمير والقيمة والمصير. ومن ثم وتحاشياً للوقوع في نمط من النزعة القدَرية التاريخية، التي ترى في تاريخ البشر خطاً واحداً مستقيماً يتجه إلى الأمام لا يلوي على شيء، يمكن القول إن الحطام العربي، الذي رسمنا به خريطة الواقع العربي الراهن في عمومه وإجماله، ليس حطاماً بإطلاق، وليس ذا بنية مغلقة كُلاً وأجزاء. إنه -بصيغة أخرى- حُطام مفتوح يحتمل مثل تلك الأسئلة العمومية أولاً، ويحتمل وجود أنماط أخرى من الحراك التاريخي، جنباً إلى جنب مع النزعة القدرية المذكورة. ويبدو أن رهاناً على هذين المعطيين أمر ذو أهمية في واقع الحال العربي الراهن، دون التفريط بالبحث الدؤوب العملي والنظري عن رهانات أخرى أكثر جدوى وشمولاً وتسارعاً. وممّا يعمق الآفاق التاريخية أمام هذه الحال أنه يبقى مثل بديع وبليغ أنتجه العقل الجمعي العربي التاريخي ويعبر عن مثل هذه اللحظة، التي يمر بها العالم العربي، وهو التالي: لولا الأمل، انتهى العمل؛ بل لولا الأمل، انتهت الحياة. ومن ثم، فإن معادلة (أيديولوجيا السوق وعبثية الخطاب الثقافي العربي) لن تكون نهائية ومطلقة، فهنالك ما ينبغي أن يُنتظر ممّا يأتي مع الغد.