علي السيد

ترددت كثيراً قبل كتابة عنوان هذا المقال، إذ كنت أود أن أكتب raquo;حزب أساء لمصرlaquo; بمناسبة الكلام الرائج عن الإساءة لسمعة مصر، وبعد تفكير طويل وجدت أن كلمة raquo;إساءةlaquo; غير معبرة وخفيفة جداً إذا ما قورنت بحجم الجرائم التي ارتكبها الحزب الوطني في حق مصر، فالحزب الجاثم علي قلوب المصريين منذ سنوات أثقل من الجبال الرواسي، وأكثر تعذيباً وألماً من حجر أمية بن خلف فوق صدر بلال بن رباح رضي الله عنه.

فمنذ بدأ الحزب الوطني يحكمنا ونحن نتدحرج من فوق جبل دون أن يمنحنا فرصة الارتطام بالأرض.. إذ لم تعش مصر، طول تاريخها، منذ عصر ما قبل الأسرات، حالة من الفوضي والخراب والارتباك وانعدام الرؤية مثل تلك الحالة التي اختلط فيها الحابل بالنابل، وسيطر الفاسدون علي كل مفاصل الوطن، لدرجة أننا لم نعد نبصر ما تحت أقدامنا.

وإذا كان بعض كتاب السياسة يرددون أن الجماعات المتطرفة سرقت الإسلام، قاصدين أن التطرف سرق أو شوه الوجه الحضاري والصحيح للإسلام، فإن أي مصري يستطيع أن يقول بصوت مرتفع وضمير متزن: إن الحزب الوطني سرق مصر، ولم يكتف بتشويه صورتها، وإخراجها من دائرة التحضر، وتصغير حجمها وإبعادها عن أي دور فاعل، وتحويل خيراتها، كل خيراتها، إلي جيوب حبلي بالحرام، بل يخطط ليظل خاطفاً لمصر دون أن يسمح لنا بأن نفتديها.

فالحزب الحاكم، ومنذ بدأت التجربة الحزبية الحديثة، يقدم نفسه علي أنه فرس السباق الوحيد، دون أن يلتفت قادته إلي الكوارث التي لحقت بمصر جراء سياستهم وطريقتهم في إدارة البلاد، والتي تعتمد علي الفهلوة والرشوة والمحسوبية، وتسخير الوطن بكل مقدراته لخدمتهم وخدمة مصالحهم الذاتية، وتقديم أطروحاتهم علي أنها المثالية السياسية، فأحد أعضاء الحزب الحاكم، وهو الدكتور إبراهيم البحراوي، كتب في صحيفة raquo;الاتحادlaquo; مشيداً بالتعديلات الدستورية المرتعشة والهشة، يقول: تبين أن التعديلات الدستورية التي طرحها الرئيس، جاءت متحررة من أي ضغط خارجي لتمثل استجابة واعية لحاجة مصر نحو التطور الدستوري والسياسي، وواجبنا نحن المثقفين يقع في إطار تقدير هذا الدور والتجاوب معه والدخول في حوار مثمر يشمل تعزيز هذا الدور والإشادة بأثاره التاريخية في النهوض بمجتمعاتنا.. هنا تتلاقي جهود السلطة الحاكمة مع آمال المفكرين المصلحين لتنطلق مسيرة الإصلاح المتدرج بانتظام طبقاً لمعايير الوطنية.

هكذا يقرر واحد من أعضاء الحزب الوطني معتقداً أو واثقاً بأن الدور الطبيعي للمثقف هو التجاوب مع ما تطلبه السلطة بل والإشادة بآثاره التاريخية، ولا أعرف ما هي الآثار التاريخية المترتبة علي تعديلات لم تقر بعد أي أنها لم تولد بعد؟! وهو يري أنه هنا، وبهذه التعديلات يكون التلاقي بين جهود السلطة الحاكمة وآمال المفكرين المصلحين الذين لا أعلم من هم من وجهة نظر الدكتور البحراوي في ظل المعارضة شبه الكاملة للتعديلات الدستورية من قبل أبرز وأهم مثقفي ومفكري مصر، وكذلك هي ليست محل ترحيب من أهم فقهاء القانون الدستوري في مصر، فمن إذن هم المثقفون والمفكرون الذين قصدهم الدكتور؟

إنه فكر أحادي لا يري إلا صورته، ولا يسمع إلا صوته، إذ يبدو أن المثقف لا يكون مثقفاً إلا إذا دخل حظيرة لجنة السياسات حسب رؤية رجال الحزب الوطني الذين يقطعون بأنه لا فكر يعلو علي فكرهم، ولا وجهة نظر ترتقي لبراعتهم، وكأنه لا شيء عندهم غير التضليل، فرئيس وزراء مصر الدكتور أحمد نظيف قال في حوار مع صحيفة raquo;الشرق الأوسطlaquo; 22/2/2007 مؤكداً جدارة وأهمية الحزب الوطني خصوصاً في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، قال: raquo;في كل العالم لا يمكن لحزب واحد أن يأخذ نسبة أعلي من التي أخذها الحزب الوطنيlaquo;، دون أن يشير إلي لعبة المستقلين التي يعرفها القاصي والداني، ودون أن يتحدث عن التزوير والبلطجة والرشاوي الانتخابية التي يعرفها الجميع أيضاً بل إن رئيس الحكومة في معرض تدليله علي فشل الإشراف القضائي علي الانتخابات حمل تجربة قاض لكل صندوق سبب عدم تمكن كثيرين من الإدلاء بأصواتهم، مؤكداً صعوبة إدخال 1500 شخص من الثامنة صباحاً حتي الثامنة ليلاً، وكأن رئيس وزراء مصر لا يعرف أن الشرطة هي التي منعت الناس، وأن تجربة قاض لكل صندوق لم تربك إطلاقاً عملية التصويت، وبإصرار عجيب يواصل رئيس الحكومة لي، بل كسر عنق الحقائق في قضايا وأمور لا تحتمل اللبس أو التأويل، إذ يقول عن غرق العبارة: إنه حادث مؤسف بلا شك له مبرراته، ولكن في النهاية فإن التقرير أدان طاقم العبارة وليس صاحبها.. ويكمل: العبارة كانت سليمة ومطابقة للمواصفات، الطاقم هو السبب فقائد السفينة لم يصدر أمراً بإنزال قوارب النجاة رغم أن عدد القوارب كان ضعف المطلوب، ولم يصدر أمرا بإخلاء السفينة أو ارتداء raquo;جاكيت النجاةlaquo;.. هذا كلام لا يصح أن يقوله أمين شرطة، فما بالنا إذا قاله رئيس وزراء مصر الذي لم يسمع أو يشاهد، كما سمعنا وشاهدنا، خبراء النقل البحري وهم يتحدثون عبر الفضائيات عن أن العبارة لم تكن صالحة لأي شيء، وأن القوارب التي يتحدث عنها الدكتور لم تكن صالحة، بل إن raquo;جاكيت النجاةlaquo; كان يصلح للغرق وليس لإنقاذ، إذ عثر علي الكثير من الغرقي وهم يرتدون هذا الجاكيت، فعمن تدافع يا دكتور؟! عن عضو في الحزب الوطني، لم تسقط حصانته في مجلس الشوري، ولم يعلق الحزب عضويته فيه إلي حين انتهاء التحقيقات، وتحولت جريمته من جناية إلي جنحة، عمن تدافع يا دكتور ودموع آلاف الأسر لم تتوقف، ودعاء الثكالي لم ينقطع علي كل الذين ساهموا في وقوع هذه الجريمة التي لن يغفرها الوطن؟! لكن هذه هي فلسفة وسياسة الحزب الوطني، وهي سياسة raquo;العين البجحة اللي تندب فيها رصاصةlaquo;.. سياسة قتل القتيل والسير في جنازته.. سياسة الكلام الذي لارقيب عليه! فمنذ سنوات، كثيرة العدد، وحكومات الحزب الوطني تكذب دون مواربة أو خجل رغم تكرار الكذب نفسه، فمثلاً نسمع ونقرأ الكثير عن تنمية الصعيد وتطويره، لكن الواقع يقول إن أكثر من 70% من فقراء مصر يسكنون الصعيد، وأزيد علي ما قالته دراسة علمية أن أكبر شريحة بطالة، خصوصاً خريجي الجامعات في الصعيد وأن أغلب الحاصلين علي درجة الليسانس والبكالوريوس يعملون باليومية في مهن هامشية عائدها متواضع جداً، فضلاًعن عدم دوامها، وأزيد أيضاً أن الصعايدة يعيشون أبشع أنواع بؤس الإدارة، إذ لا يجدون علاجاً في مستشفيات الحكومة، إن قدروا علي الوصول إلي المستشفي، فمستشفياتهم فقيرة ومتهالكة، ومدارسهم لا تصلح لشيء، وخصوصاً في الريف، وأزيد أيضاً أن الشرطة الممثل الوحيد للدولة في الصعيد، تمارس كافة صنوف الإذلال والتعذيب، فضلاً عن دعمها للأسر الكبيرة التي تلعب دوراً ما في الانتخابات، والتي منها يتم اختيار مرشح الحزب، والذي يعمل بدوره علي دعم وتقوية عائلته علي حساب فقراء قريته!، ولن أزيد أكثر لكنني أحذر من أن في الأفق ملامح ومبررات لعودة الترف الذي التطرف سيكون أكثر عنفاً وتخريباً من عنف الثمانينيات والنصف الأول من التسعينيات.

فمن الذي حول أرضنا الخصبة إلي أرض بور جدباء، ومن الذي جعل بطون النساء عقيمة عن إنجاب نجباء للوطن غير الحزب الوطني، الذي يقدم أسوأ صورة عن مصر التي تظهر وكأنها عاجزة عن التغيير وعن تقديم وجوه غير تلك التي يقدمها الحزب الوطني، ويصدرها إلي الواجهة رغم بهتانها وزور رؤيتها؟! فهذا الحزب لا يقدم غير النماذج الفاسدة من رجال أعمال هربوا بأموال مصر أو رجال سرقوا ومازالوا يسرقون أموال البنوك، أو مسئولين عباقرة في الرشوة ونهب المال العام، أو إعلاميين أغبياء لا ينظرون في المرآة ولا يخجلون من رداءة، بل وجرم ما تنطق به ألسنتهم، انظروا إلي رجال الحزب الوطني في الصحف القومية،كم هم سطحيون ومخادعون ومضللون وقصار النظر وجهلاء يرهبون الصادقين الذين يخالفونهم الرأي، ويستخدمون ألفاظاً لا يستخدمها بلطجية الشوارع والحارات المزدحمة.. انظروا إلي الشرطة وكيف تتعامل بغطرسة وعنجهية ويمارس رجالها شتي صنوف التعذيب في أقسامها مع الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة.

انظروا إلي الذين يتحدثون في التليفزيونات ويكتبون في الصحف مدافعين عن فكر الحزب الوطني، فستجدوهم بلا حجة.. مهترين وباهتين ومرتبكين أمام الحقائق، لكنهم لا يتزحزحون عن أفكارهم المريضة التي تحتاج إلي أطباء نفسيين لعلاجهم من أمراض الكذب والجهل وداء العظمة.

الحزب الوطني هو الذي أجهض مصر الولادة بإصراره علي أن مصر ليس فيها غيره، وأنه لا يصح ولا يجوز أن يكون هناك تداول للسلطة.

الحزب الوطني هو الذي همش دور مصر إقليمياً ودولياً وجعل دولاً لم تكن يوماً محورية مثل باكستان التي تريد أن تكون لها مكانة علي حساب تفكك وضياع الدور المصري.. فيلتقي في باكستان وليس مصر وزراء سبع دول سنية معنية بالصراع في الشرق الأوسط، وهذا الاجتماع يمهد لاجتماع قمة بين رؤساء الدول، وليس هذا فحسب، فقد سبق أن التقت وزيرة خارجية أمريكا مديري مخابرات أربع دول عربية هي: السعودية والإمارات والأردن ومصر، وكان اللقاء في الأردن وليس مصر.. وهكذا تفقد مصر العظيمة علي أيدي ساسة الحزب الوطني دورها بسرعة أكبر مما توقعها العالم.

الحزب الوطني هو الذي أفسد الحياة النيابية والبرلمانية عبر اختياره نماذج من رجاله اللصوص وقادة البلطجة ليكونوا مشرعين، الحزب الوطني سرق مصر.. ونحن نريدها.

آخر سطر

عندما اعتقلت القوات الأمريكية عمار الحكيم، أثناء عودته من إيران، اعتقدت أن الأمريكان عرفوا أخيرا أين وضعوا أقدامهم، وبعد الإفراج العاجل عنه، واعتذار أو دهشة زلماي خليل زادة، أيقنت أن الأمريكيين مازالوا في غيهم يعمهون.