راغدة درغام

تعمل حكومات وقيادات عربية فاعلة نحو صياغة شبه إجماع عربي على تناول قضايا فلسطين ولبنان والعراق بطروحات جديدة وجريئة تلقى دعم حكومات وقيادات دول مسلمة كبرى وتترك للذين يأبون الالتحاق بهذا الإجماع أن يتحملوا مسؤولية قراراتهم ويحسموا انتماءاتهم. هذا الشهر سيأتي بتحرك نوعي ينطلق جزء منه من مخاطبة نادرة للعاهل الأردني الملك عبدالله الثاني جلسة مشتركة لمجلسي الشيوخ والنواب الأميركيين ويتوج جزء آخر منه في القمة العربية التي يستضيفها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله في الرياض وسيشارك فيها الأمين العام للأمم المتحدة بان كي - مون. ويأتي انعقاد مؤتمر دول الجوار العراقي بعد حوالي عشرة أيام كمؤشر مهم على نواة إجماع عربي على ضرورة عدم التخلي عن العراق أو تركه اما رهن استقطابات أميركية - ايرانية أو رهن تجاذبات وتفاهمات ارادت طهران لها أن تكون حصراً ثنائية مع واشنطن باستبعاد للجوار العربي عنها. مشاركة الادارة الأميركية في هذا المؤتمر تفتح صفحة على احتمال التفاهم مع ايران انما في اطار اقليمي وليس بصفقات. فليس صحيحاً ان هناك استعداداً في واشنطن لإبرام صفقة تضحي بلبنان أو بالمحكمة الدولية مقابل تعاون سورية وايران في العراق وانما العكس. هناك إجماع عربي، يمثله تحرك الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، على ابلاغ دمشق ان لا هروب من المحكمة ذات الطابع الدولي لمحاكمة الضالعين في الاغتيالات السياسية في لبنان، ولا استعداد عربياً لتوفير أي غطاء للتملص من المحكمة. فخلاصة الرسالة العربية ان البديل عن المحكمة ذات الطابع الدولي التي تقبع رهينة رفض حلفاء سورية في لبنان السماح لمجلس النواب بالتصديق عليها هو محكمة دولية يفرضها الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ويلزم الجميع بها. وكما في شأن لبنان والعراق، كذلك في شأن فلسطين، توجد بوادر إجماع بين قيادات عربية ودول مهمة في العالم الاسلامي مثل اندونيسيا وباكستان وتركيا على عرض مبادرات تقتلع فلسطين من الاحتلال وتضع العلاقة مع اسرائيل في اطار الاعترافات المتبادلة.

ما لفت الأنظار هذا الاسبوع هو المواقف الجديدة لوزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس التي أعربت فيها عن استعداد الولايات المتحدة للجلوس الى الطاولة ذاتها مع ايران وسورية في بغداد تلبية لدعوة من الحكومة العراقية لعقد مؤتمر دول الجوار العراقي بمشاركة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي وربما الاتحاد الأوروبي. الجديد ظاهرياً، هو أن الإدارة الأميركية وافقت على التحدث مع ايران وسورية في شأن العراق بعدما كانت تجاهلت توصيات لجنة بيكر - هاملتون باجراء المحادثات مع طهران ودمشق لكونهما عنصراً أساسياً لا استغناء عنه في موضوع العراق.

صحيح أن ما أعلنته رايس يشكل موقفاً جديداً لا سيما أن وزيرة الخارجية كررت مراراً خلال الاسابيع القليلة الماضية ان الحديث مع ايران يتطلب تعليقها، أولاً، تخصيب اليورانيوم تنفيذاً لقرارات مجلس الأمن. ثم بعد ذلك، يصبح الباب مفتوحاً للبحث في كل الملفات. يمكن القول ان الادارة الأميركية وجدت في مؤتمر بغداد وسيلة للخروج من الزاوية التي حشرت نفسها فيها هي وبريطانيا وروسيا وفرنسا والصين وبقية أعضاء مجلس الأمن، عندما أجمعت هذه الدول على ضرورة تعليق طهران التخصيب، اولاً، وكشرط مسبق، قبل أي محادثات. ويمكن القول ايضاً إن ايران وسورية - اللتين سعتا وراء هذا المؤتمر وعملتا نحوه قبل أن يتبناه العراق ويرسل الدعوات من بغداد - وجدتا في هذا الاجتماع وسيلة لخروجهما من الزاوية نحو حوار مع الادارة الأميركية لطالما أرادتاه، كل لأسبابه الخاصة.

الأهم، هو الاستباق العربي من دول فاعلة في الخليج بالذات، لاحتضان الفكرة كي تكون هذه الدول في الطليعة. في إحدى الجلسات المغلقة، في منتدى دافوس، بادر وزير خارجية عربي الى طرح فكرة عقد اجتماع لوزراء الخارجية العرب في بغداد تعبيراً عن الدعم العربي للعراق ولهويته العربية. وفي تلك الجلسة بالذات أخذت فكرة عقد مؤتمر لدول الجوار في بغداد بعداً عملياً، شرط أن تأتي المبادرة من العراق وليس من الولايات المتحدة أو غيرها. هناك أبلغت الرسائل بأن ايران راغبة وسورية متشوقة للمشاركة في مؤتمر كهذا، كل لاعتباراته الخاصة. وهناك تم تبادل الآراء حول سبل الحؤول دون تحول العراق الى ساحة الحروب الطائفية بعدما دفع ثمناً باهظاً نتيجة تحوله الى ساحة للحروب الارهاب.

هذا المؤتمر يوفر فرصة ضرورية للقوى الاقليمية وللقوى الغربية لبحث جماعي في متطلبات انقاذ العراق وانتشاله من مخالب المزايدات على ارهابه والاستقطاب على حسابه. هذه قرارات رئيسية وجذرية قد يريد جميع اللاعبين من الدول الخوض فيها لأن جميع اللاعبين في العراق خاسر لا سيما إذا لم يستدرك، وبسرعة. بكلام آخر، ان الولايات المتحدة تتمنى أن تعكس التيار وتؤمن خروجها من العراق غير منهزمة بل قادرة على حجب الانتصار عن قوى التمرد وقوى الارهاب. كذلك ايران فإنها أدركت ان الخروج الاميركي المبكر سيتركها الوريث لعراق محطم لن تتمكن من السيطرة عليه بل سيصبح الغول النامي في حديقتها الخلفية. وبالتالي تدرك طهران انها على وشك هدر الأرباح التي أتت بها عليها الحرب الأميركية في العراق وذلك بخروج القوات الأميركية منه. القاسم المشترك بينها وبين الجيرة العربية للعراق هو الخشية من الخروج الأميركي السريع الذي قد يدفع الجميع الى تمويل وتعزيز وتسليح حرب طائفية بإضعاف ما تقوم به في مواجهة موسعة ومدمرة بلا هزيمة أو انتصار.

مؤتمر بغداد لن يكون المنقذ المعجزة لكنه قادر على أن يكون بداية الانقاذ الجماعي. مؤتمر بغداد ليس اطلاقاً تكملة للحديث الذي بدأته طهران مع واشنطن لتحقيق تفاهم ثنائي في موضوع العراق. انه العكس تماماً. والتمييز بالغ الأهمية بين الدعوة الايرانية الى تفاهمات ثنائية تستبعد الجيرة العربية وبين التلبية الأميركية للدعوة العراقية الى مؤتمر اقليمي - دولي يشارك فيه كل جيران العراق. فالموافقة الأميركية على المشاركة في مؤتمر دول الجوار تنطوي على الرغبة في التهادن وليس على الاندفاع نحو صفقات ثنائية.

توجه الادارة الأميركية نحو التهادن له عناوين متعددة بينها الكونغرس الأميركي الغاضب من الفشل والأخطاء في حرب العراق، وبينها توصيات بيكر - هاملتون. هناك رغبة الآن برفع اللوم والعتب كي لا يقال ان ادارة جورج دبليو بوش تجاهلت توصيات بيكر - هاملتون كلياً فيما ايران وسورية أرادتا الحوار والتعاون مع الولايات المتحدة في موضوع العراق. الى حد ما، قد تكون هذه سياسة سحب البساط من تحت أقدام الذين يعتقدون ان ايران وسورية صادقتان وراغبتان في التعاون الحقيقي مع الولايات المتحدة في العراق مقابل الاعتراف لهما بدور واجراء الحوار معهما. وقد تكون سياسة اختبار مدى صدق طهران ودمشق في التعاون مع واشنطن في موضوع العراق في غياب الصفقات المقابلة لا سيما في ملفي لبنان وفلسطين.

فإذا كانت طهران تسعى وراء ضمانات بتوقف إدارة جورج دبليو بوش عن اعتبارها محوراً في laquo;محور الشرraquo; والكف من العمل والأمل بإسقاط النظام، فالثمن الذي على ايران دفعه هو التخلي عن استغلال القضية الفلسطينية والكف عن استخدام laquo;حزب اللهraquo; في لبنان لغايات الهيمنة الايرانية. وهذا يتطلب ليس فقط إعادة توجيه laquo;حزب اللهraquo; في لبنان، والتوقف عن منع المصالحة الفلسطينية والوحدة الوطنية، انه يتطلب الاستغناء عن سورية.

أما دمشق، فليس في متناولها خيار الاستغناء عن ايران مهما تصور البعض ان انسلاخ سورية عن ايران استراتيجية ذكية. انها الملحق لطهران الذي قد يصبح العبء الثقيل إذا استمرت الأسرة الدولية والولايات المتحدة بالذات في التزامها القاطع بعدم التضحية بلبنان أو وضعه في موازين المقايضات والالتزام بإنشاء المحكمة الدولية. وستستمر. ذلك ان لا مجال للتراجع عن المحكمة أو لقطع الطريق أمام التحقيق لأن الرسالة الناتجة عن التراجع هي اعطاء الضوء الأخضر للمضي في الاغتيالات وسيلة لإحداث تغيير سياسي. وهذا لن يحدث.

الرئيس جورج دبليو بوش أكد لقيادات 14 آذار، أثناء زيارة زعيم التجمع الديموقراطي وليد جنبلاط والوزير مروان حمادة وأثناء زيارة الرئيس السابق امين الجميل، ان لا تراجع عن التزامه باستقلال لبنان ولا تردد اطلاقاً في تمكين لبنان من التصدي لكل ما يهدف الى إعادته الى الحظيرة السورية. وعد بوش بالدعم السياسي والمعنوي والمادي وكذلك بالدعم العسكري لتمكين الجيش اللبناني من حماية الدولة واستقلالها، ومنع قيام دولة داخل دولة بأموال وأسلحة ايرانية تعبر الى laquo;حزب اللهraquo; عبر سورية.

الرئيس الأميركي ما زال يمسك بزمام صنع السياسة الخارجية، وسيستمر في ذلك لسنتين، على رغم انهيار شعبيته نتيجة حرب العراق. انه ليس في وارد ابرام صفقة مع دمشق وطهران تطيح بالمحكمة الدولية وبلبنان. قد لا يكون في صدد إعداد خطط إسقاط نظامي دمشق وطهران، لكنه لن يتردد في ذلك إذا ثبت استمرار سورية وايران في نسف استقرار لبنان. لذلك ازداد الكلام في الآونة الأخيرة عن تعزيز قدرات المعارضة السورية. فهذه المعارضة ليست في عواصم أوروبية فحسب لكنها ايضاً في جيرة سورية، وهي جاهزة للتخريب على القدرات التخريبية للقيادة السورية لا سيما إذا تم تجهيزها وإعدادها جيداً. وهناك معارضة مهمة داخل سورية وفي المواقع الرئيسية وهي تريد انقاذ البلاد من مصير كمصير العراق وترى ان التخلص من النظام هو الوسيلة.

الواضح ان القيادة السورية تعارض المحكمة ذات الطابع الدولي لأسباب وجودية لكنها ستضطر الى الكف عن المعارضة بسبب بروز ونشوء اجماع عربي على المحكمة اضافة الى الاجماع الدولي. هناك دولة هنا ودولة هناك تعارض إنشاء المحكمة بذريعة خوفها من تسييسها. انما باستثناء هذه القلة من الأقلية، يوجد اجماع عربي له بالغ الأهمية والتأثير. فالمحكمة ليست هوساً ولا هي مطالب سطحية. انها القطار الوحيد الى خلاص لبنان حقاً من تسلط واستغلال خارجي وداخلي.

الجانب الآخر المهم من الاجماع العربي قيد التبلور هو الموضوع الفلسطيني. وهنا من المهم واللافت ان تتمتع قوى الاعتدال العربي بدعم دول اسلامية مهمة مثل اندونيسيا وهي تعد مبادرات تتحدى الولايات المتحدة واسرائيل معاً الى السلام والتعايش والاعتراف والتطبيع مقابل إنهاء الاحتلال الذي وقع عام 1967 على الأراضي الفلسطينية.

عندما يتوجه العاهل الاردني بخطابه الى الكونغرس الأميركي الاسبوع المقبل سيتحدث نيابة عن قوى الاعتدال ويتحول منها ليتقدم بطروحات وليطلق صفارات الانذار. سيتكلم بصوت العرب في الكونغرس وكذلك بصوت المسلمين المعتدلين. سيقدم نبذة من الاجماع العربي والمسلم الذي يصنع ويعد في صدد الموضوع الفلسطيني. سيركز على القضية الفلسطينية بصفتها المدخل الرئيسي لحلول ضرورية في المنطقة ان كان لجهة ايقاف التطرف والارهاب، ولجهة تحييد ايران واحتواء تصاميم الهيمنة، أو لجهة اقامة شراكة جديدة مع الشارع العربي لتوجيهه نحو الاعتدال ومحاربة الارهاب والتطرف.

مكان اطلاق المبادرات قد يكون في القمة العربية المهمة الآتية التي ستكون أقرب ما يكون الى قمة الاجماع. فإذا تعذر الاجماع او اعتذرت دول عنه، لتقف وتقول من هي ولماذا. أما إذا سارت الأمور من الآن حتى ذلك الموعد لتبين فهماً أعمق للمعادلات والفرص والتحديات، فربما يأتي الاجماع المرتقب بنتائج من نوع آخر غير المعهود في القمم العربية.

الآن، تنصب الأحاديث على من يحضر ومن يغيب والى من تم توجيه الدعوات. رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة سيذهب الى القمة العربية، وهذا ما تم التفاهم عليه ضمنياً، مهما حاول رئيس الجمهورية اميل لحود تفسير الدعوات بغير ذلك. فهناك اجماع عربي على دعم الحكومة اللبنانية المنتخبة شرعياً التي يرأسها السنيورة، فيما قلة قليلة ترى في تمسك لحود بالرئاسة عملاً شرعياً. يوجد اندفاع عربي نحو عدم التخلي عن لبنان وفلسطين والعراق، وهذا بحد ذاته مهم وضروري. ومن الضروري للأطراف الدولية ان تدرك ان الاندفاع نحو الاجماع العربي يتطلب منها المثابرة في لبنان، والاستطلاع في العراق والجرأة على الجديد في فلسطين وسريعاً.