ثريا الشهري


نشرت صحيفة laquo;الشرق الأوسطraquo; خبراً مفاده أن صحيفة بلجيكية قامت بتوزيع نسخة مترجمة من القرآن الكريم مجاناً على قرائها، كما حملت كوبوناً يوفر لحامله الحصول على القرآن مترجماً إلى اللغة الفلامنكية (نسبة إلى الجزء البلجيكي القريب من حدود هولندا)، بالإضافة إلى كتاب حرصت الصحيفة على توزيعه، وعنوانه laquo;الإسلام الآنraquo;، كملحق لها لمدة 15 يوماً ويتناول تاريخ الإسلام، وصولاً إلى الزمن الحاضر، مع عزمها كذلك على نشر فصول متتالية عن العقيدة الإسلامية، والتعريف بفروضها من صلاة وصوم وزكاة وحج. إلى هنا وينتهي الخبر الذي يشرح نفسه، ومع هذا نستطرد فنقول إنه حين ظهرت الرسومات المسيئة لرسولنا وحبيبنا عليه الصلاة والسلام، تراوحت ردود أفعالنا بين تكسير لواجهات مبانيهم، إلى حملات المقاطعة لمنتجاتهم، والتي عادت الأغلبية إلى شرائها خلسة أو جهلاً من الأساس بمصادرها، فالمسألة لم تخرج عن هتافات زعمت أو اعتقدت نصرة الدين وفي الحقيقة كانت تشوهه، فأين كانت مبادرات العمل الاجتماعي والمنهج الأخلاقي والأسلوب التربوي في إيصال قيمة ديننا، إن كنا نؤمن بغيرتنا عليه! أين كانت الإمكانات الاقتصادية التي سخرت حينها بغرض لفت انتباه العالم إلى منظومة أرقى للإسلام، بفهم أدق للشريعة!

لا أظن أن شيئاً من ذلك حصل، اللهم إلا عدد من ندوات أقامها بعض الدعاة المسلمين وبعد تفاقم الأمور، والتي لم تحدث الأثر الذي أسفرت عنه التصرفات الغوغائية وهذه نتيجة طبيعية، فما يخلفه تفجير مبنى أو خطف أبرياء وقتل آمنين، أسرع انتشاراً وأشد وقعاً من توزيع الكتب وعقد المحاضرات التي تتجه بمضامينها إلى التغيير ولكن ببطء، ومع ذلك، يبقى العلم هو بابنا إلى السيادة ولا شيء غيره، أما إلحاحنا على جز الرؤوس فهي صيغة لا تختلف كثيراً في خطرها على الحضارة والإنسانية عن غيرها من الصيغ الأخرى كالنازية والفاشية وخلافها، ثم، لماذا عند وقوع قصة الكاريكاتوريات إياها، لم يبق مسلم لم يسمع بها، ولكن حين يستعدون لطبع وتوزيع النسخ المترجمة عن كتابنا المقدس، يمر الخبر وكأنه شيء مسلم به؟ وعلى افتراض (وإن كنت أستبعده) أن تمويل النسخ الموزعة جاء بمشاركة أموال بعض المسلمين، ألم يكن بإمكان الصحيفة رفض الطلب وببساطة! أم ترانا نزعم سلطتنا عليهم، وندعي أننا فرضناها فرضاً!

ولنأت إلى شــعارlaquo;تطبيـق الشريعةraquo; المطلق على عواهنه من قبل الجماعات المتأسلمة؟ لقد بات من المعروف أن هذه الجماعات إنما تأمل في قلب أنظمة الحكم في المنطقة العربية، فالإسلامية، فالسيطرة على البلاد والعباد من خلال ما يزعمون أنه الإسلام، والذي هو ليس إلا أيديولوجية سياسية، ليست هي الإسلام وليست هي الشريعة، وإن كانوا يصرون عليها ويسلكون في سبيلها كل الطرق بما فيها التقية، بمستويين للخطاب، أي بوعيين ولسانيين ولغتين، فيظهرون غير ما يبطنون، ويدعون غير ما يعملون، ويحدثوننا بغير ما يحدثون به مصدِّقيهم، ليكونوا قد جعلوا النفاق منهجاً لهم، أي باختصار، الغاية تبرر الوسيلة، والسؤال الافتراضي: ماذا لو وصلوا إلى هذا الكرسي، ماذا هم فاعلون؟ ألن يستخدموا أدوات الغرب في اتصالاتهم وتنقلاتهم، أم سيحرمونها علينا ويحللونها لهم! أم ترى سيصنعون غيرها! هل سيسمحون بزحف العلم بمجالاته أم يقصرونه على الكتب الدينية laquo;المعينةraquo;!

هل سيعزلون النساء في قلاع محصنة، ويخفون معالم وجوههن ! هل سيجمدون المال والأصول والصادرات، ويستنفذون المقدرات بحجة عدم التعامل مع الآخر! وهل سيفعلون ذلك وأكثر، فلا يلقون اعتراضاً، أو قل احتلالاً، أم هو حكم البطش والعنف وأيضاً باسم الدين! ثم، ما هي برامجهم المفصلة الوافية لتحقيق العدالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فعلى رغم مرور السنوات على الفكر التكفيري لم يخرج علينا أتباعه سوى بشعارات دينية تمويهية، لا هم لها غير جذب المشاعر، وإرباك الحكومات، وتقويض النظم السائدة، وتهديد احترام الناس للقانون، وتشكيكهم في مؤسساتهم وأساليب عيشهم، ورغم مرور السنوات لم يقدموا لنا دراسات علمية مستفيضة مستنيرة عن الدين لفظاً وحكماً، فاختزال كل الشريعة في جزئية العقوبات، يحيل الإسلام إلى عقوبة والأصل فيه العدالة، أما ترديد laquo;حاكمية اللهraquo; فهو نفس قول الخوارج، والآية الكريمة التي تقول: laquo;ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرونraquo;، إنما تعلقت بواقعة محددة لم يطبق فيها يهود المدينة حكم التوراة، فيا ليتنا نذكر ما سبقها من آية (فلا نستقطع ولا نوظّف): laquo;وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله.. ومن لم يحكم بما أنزل..raquo;.

ظهور الغرب كسيد جديد كانت بدايته الآلة وقوة البخار والثورة الميكانيكية، ففي عام 1698 وقت سطوع نجم المحرك البخاري، كان الامبراطور الهندي المسلم عالمكير، والسلطان العثماني أحمد الثالث معاصرين لتلك الحقبة، ولكن بمعزل عن العالم وما جرى فيه من تغير في موازين الطاقة، والتي قوي بها أهلها فقضوا بمعولها على الامبراطورتين: المغولية والعثمانية، ونحن اليوم، وفي اللحظة التي يتناحر فيها العرب على كل شيء، هناك بشر في مكان ما يتعلمون ويخترعون ويتقدمون، وفي النهاية سيحكموننا وبقوة العلم، فالامبراطور الياباني عندما استعاد السلطة في عام1869، أقسم على طلب العلم والمعرفة من أي مصدر متاح، فأوفد البعثات التعليمية إلى خارج اليابان، وأتى بالمهندسين من أوروبا، وأقام الجامعات والمعاهد البحثية، ليؤسس، وبعد سنة واحدة فقط، وزارة الهندسة التي وضعت أسس الثورة الصناعية اليابانية، فهل نستكثر على أبنائنا الذين يدرسون في أروقة الغرب خصوصاً أن يحملوا شعلة التطوير لبلادهم عوضاً عن التركيز على مظاهر الفساد التي عاينوها ومحاربتهم لها بكهف وشاشة ورصاصة، كلمة أخيرة: امتلأت مساجدنا بالمصلين ومع هذا لم ننتصر، والأولى أن تمتلئ مساجدنا بالمصلين وقلوبنا بالإيمان بقيمة علم لا يدمر، وعمران يستخلف، فالعقول المبدعة لا تنتج إلا حيث الأمن والسلام.. حيث البيئة الراعية والمحرِّضة. كلمة بعد الأخيرة: حين يعم القتل، يغيب العقل.