سعد محيو

مرة أخرى، عاد لبنان كما كان طيلة قرنين: الأرض التي يتم فوقها تقاطع كل، او معظم، الصراعات الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط.

ومرة اخرى، يصح تماماً الوصف الذي أطلقه مستشار النمسا في القرن التاسع مترنيخ، أستاذ هنري كيسينجر وبقية سرب مدرسة موازين القوى، والذي قال فيه ان لبنان ldquo;صغير البقعة الجغرافية، لكنه عظيم الأهمية السياسيةrdquo;.

حسناً. لبنان مهم بالفعل، لكن لغيره وليس لذاته. هو بالغ الأهمية (هذه الأيام) لإيران بوصفه واحداً من أهم إنجازات ثورتها في مجالي السياستين الخارجية والامنية.

وهو فائق الأهمية لأمريكا وفرنسا وبقية دول الغرب، التي باتت تعتبره خط التماس الاول في الصدام الذي تجري وقائعه الآن بين العولمة ما بعد الحديثة والعلمانية، وبين القوى ما قبل الحديثة المتطرفة إيديولوجياً.

وبالمثل، تضع سوريا لبنان على رأس جدول اعمال سياساتها الخارجية والامنية، بوصفه خط الدفاع الاول عن نظامها في دمشق، وتطل عليه ldquo;إسرائيلrdquo; (خاصة بعد حرب الأسيرين في تموز/يوليو الماضي) على أنه الهدف الذي يجب تدميره او تغييره للحفاظ على هيبة القوة العسكرية ldquo;الإسرائيليةrdquo; وتفوقها في الشرق الاوسط.

ثم هناك المملكة السعودية التي تمتلك أرصدة سياسية هائلة في بلاد الأرز، ومصر التي تجد نفسها منجذبة برغم ارادتها إلى البؤرة اللبنانية. وهناك حتى تركيا التي أرسلت مؤخراً قوات إلى لبنان للمرة الاولى منذ انسحاب الجيوش العثمانية منه العام 1918.

كل هذا الوجود الإقليمي والدولي الكثيف على أرض لبنان، يتبلور في ldquo;ألعاب أممrdquo; تأخذ الأشكال الآتية:

صدام أمريكي إيران حاد، يترَكز في مناطق النفط في العراق وبقية منطقة الخليج، ويتمدد كشعاع عملاق غرباً إلى الهلال الخصيب، وشرقاً إلى قزوين وآسيا الوسطى.

سباق على النفوذ بين ldquo;الإمبراطوريتينrdquo; ldquo;الإسرائيليةrdquo; والإيرانية.

تنازع إيديولوجي بين طهران والرياض، وتنافس إستراتيجي بين سوريا وبين كل من محور الرياض- القاهرة- عمان، ومحور واشنطن- باريس.

لبنان بات الآن رهينة كل هذه الصراعات دفعة واحدة. هذا ما كان يطلق عليه في سبعينات القرن العشرين ldquo;ارتباط ازمة لبنان بأزمة الشرق الاوسطrdquo;، التي كانت في القرن التاسع عشر أزمة ldquo;الرجل التركي المريضrdquo;، والتي قد تكون في القرن الحادي والعشرين أزمة ldquo;الرجل العربي المريضrdquo;.

ربما تكون هذه أخبار سيئة للبنانيين. لكنها، على مرارتها، حقيقية. ولو ان ثمة سياسيين يتسمون بالحكمة في لبنان( وهذا ليس واقع الحال)، لعملوا ليس على الصراع على النفوذ الداخلي في ما بينهم، بل على تحرير لبنان من هذه الارتباطات التاريخية المدمَرة.

كيف؟ ldquo;الحياد الإيجابيrdquo; لبلاد الأرز فكرة جيدة. ميثاق وطني تاريخي بين اللبنانيين لتحويل بلادهم من ساحة عنيفة إلى منتدى حواري سلمي لصراعات الشرق الاوسط، فكرة جيدة أخرى.

بيد ان كل هذه الأفكار الجيدة تحتاج إلى مفكرين جيدين، وإلى سياسيين يتمتعون في آن بالحس الوطني، والوعي الاستراتيجي- التاريخي، وقوة الإرادة.

لكن كل هذه، من أسف، قيم تكاد تكون مفقودة في السوق اللبناني، الأمر الذي سيعيد لبنان (وحتى إشعار آخر) إلى ما كان عليه طيلة قرنين: الوطن- البؤرة!