يترك منصبه في السادسة مساء 24 تموز؟ ...
سوزانا طربوش
يقيم رئيس الوزراء البريطاني توني بلير في 16 حزيران (يونيو) الجاري حفلة في laquo;10 داوننغ ستريتraquo;، مقر رئاسة الوزراء، على شرف عدد من الأغنياء الأميركيين من بينهم رجل الأعمال المكسيكي اللبناني الأصل كارلوس سليم حلو، وهو ثالث أغنى رجل في العالم (والأكثر في أميركا اللاتينية) إذ تقدر ثروته بتسعة واربعين بليون دولار.
دعا بلير هؤلاء الأثرياء لمقابلته تكريماً لتعهد كل منهم بمنح 25 ألف دولار أميركي الى صالة تيت البريطانية للفنون (Tate Gallery) من طريق حجز عدد من المقاعد خلال عشاء خيري ينظم في 8 آذار (مارس) الجاري في نيويورك. وكان بلير أبلغ الليدي لين فوريستير دو روتشيل، رئيسة المسؤولين الأميركيين عن صالة تيت، دعمه الشخصي لهذا الحدث.
ومن بين الشخصيات التي ستلبي دعوة بلير البليونير رونالد بوركل، الذي عين الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون بعد انتهاء ولايته الرئاسية مستشاراً لشركته الاستثمارية الخاصة laquo;يوسياباraquo; (Yuciapa) مقابل أجر قد يبلغ ملايين الدولارات سنوياً.
وستشكل الحفلة فرصة مؤاتية لبلير لبناء صداقات جديدة مع الأثرياء وأصحاب النفوذ تحضيراً للدور البارز الذي ينوي تأديته على الساحة الدولية بعد انتهاء ولايته في رئاسة الوزراء. وكان بلير، البالغ من العمر 53 سنة، صرح في مقابلة مع صحيفة laquo;أوبزرفر سانديraquo; (Observer Sunday) بأنه ينوي بعد انتهاء ولايته الضلوع بدور فاعل في الملفات المطروحة اليوم على الساحة العالمية، لا سيما التغير المناخي والقارة الأفريقية والنزاعات الدينية.
وأنشأت laquo;مارثا غرينraquo; وهي من المستشارين الشخصيين لبلير وزوجته شيري، موقعاً إلكترونياً خاصاً برئيس الوزراء (tonyblairfoundation.co.uk) تحضيراً لنشاطاته المستقبلية. وحتى الآن، اكتفى بلير بالقول إنه يريد تأسيس جمعية، على غرار ما فعل كلينتون بعد مغادرته البيت الأبيض.
ومع اقتراب موعد رحيل بلير وعدم صدور أي تاريخ حتى الآن يحدد اليوم الفعلي لانتهاء ولايته، فأقل ما يقال هو أن مسار الحياة السياسية البريطانية ملبد بالضباب. اذ بعد تصريح رئيس الوزراء بأنه لن يخوض للمرة الرابعة الانتخابات العامة التي ستجرى سنة 2010، أعلن في خطابه الوداعي لحزب العمال في أيلول (سبتمبر) الماضي أنه سيعتزل الحياة السياسية في غضــــون سنة. غير أن توقيت الحفل الذي سيقيمه يدل الى أن بلير يتوقع أن يبقى في سدة السلطة حتى ذلك التاريخ. كذلك ترددت في بريطانيا أصداء رغبته الشديدة في حضور قمة الثماني التي تقام في ألمانيا بين السادس من حزيران والثامن منه وقمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل في الحادي عشر من الشهر نفسه.
ونشرت صحيفة laquo;ذي بيبولraquo; مقالاً كشـــفت فيه عن معلومات مفادهــــا ان بلير سيغادر منصبه في تمام الساعة السادسة من مساء الرابع والعشرين من تموز (يوليو) ما ألقى المزيد من الشكوك حول رحيل بلير في الصيف.
الغموض الذي يكتنف توقيت مغادرة بلير منصبه والقلق إزاء مدى أهلية خلفه المحتمل وزير المال الحالي غوردن براون للتربع على كرسي رئاسة الوزراء يعقدان الأمور داخل حزب العمال ويزيدان من حدة الاضطراب، كما يترقب البعض احتمال نشوب laquo;حرب أهليةraquo; داخل الحزب. وثمة مخاوف من أن يتلقى الحزب ضربة قاسية خلال انتخابات كل من البرلمان الايرلندي والجمعية الوطنية لمقاطعة ويلز والمجالس الإنكليزية في الثالث من أيار (مايو) المقبل.
ولعل من أبرز أسباب عدم استعجال بلير مغادرة منصبه أنه يحاول ترك إرث كبير وإيجاد مكان لنفسه في صفحات التاريخ. وكان رئيس الحزب الديموقراطي الليبرالي مانزيز كامبل شبّه في خطاب ألقاه خلال مؤتمر نظمه حزبه في الرابع من آذار محاولة بلير ترك إرث لأنصاره بالذهاب إلى laquo;السوبر ماركتraquo; للتبضع قبل ثوانٍ من وقت الإغلاق.
غير أن بلير لا يزال يمضي قدماً في سياساته ولا يكف عن إطلاق مبادرات جديدة، وإن كان الكثير من وزراء حزب العمال وغيرهم من أعضاء البرلمان استشاطوا غضباً عندما وردت أخبار عن مفاوضات أولية تجريها حكومة بلير مع الأميركيين حول تركيز جزء من نظام الدفاع الصاروخي الأميركي laquo;سان أوف ستار ورزraquo; (Son of Star Wars) في بريطانيا، وهو مشروع يهدف إلى تمكين أميركا من مواجهة أي تهديد والتصدي لصواريخ قد تطلق باتجاهها من الشرق الأوسط. كذلك اتُهم بلير بوضع حد للنقاش حول قناعته بضرورة استمرار بريطانيا في تطوير الصواريخ النووية laquo;تريدنتraquo; التي جهزت بها غواصاتها.
لكن، مهما حاول بلير تسليط الأضواء على الإنجازات التي حققها خلال السنوات العشر الماضية، أي منذ وصول حزب العمال الجديد إلى الحكم، فسيبقى إرثه ملطخاً بمشاركته في الحرب الكارثية على العراق وعلاقته الوثيقة مع الرئيس الأميركي جورج بوش. ولا يزال رئيس الوزراء البريطاني يرفض الاعتراف خلال المقابلات التي يجريها بارتكابه أي خطأ في قراره شن الهجوم على العراق إلى جانب الأميركيين، مشدداً على أن هذه الحرب تشكل جزءاً مهماً من الكفاح ضد قوى الشر وهي بمثابة صراع من أجل القيم. وعلى رغم مزاعم عدد كبير من الخبراء، لا يقر بلير بأن الحرب على العراق أدت إلى تفاقم ظاهرة الإرهاب في العالم لا سيما في بريطانيا.
عندما أعلن بلير في شباط (فبراير) عن خفض عدد القوات البريطانية في العراق في وقت كانت الولايات المتحدة تزيد فيه عديد جنودها في بغداد، رأى البعض في هذه المبادرة محاولة من رئيس الوزراء لتثبيت صورته كقائد laquo;أعاد الجيوش البريطانية إلى ديارهاraquo;. لكن، في الوقت عينه، كانت بريطانيا تباشر إرسال المزيد من الجنود لاستكمال الحرب على طالبان في إقليم هيلمند في أفغانستان، حيث سجل في الرابع من آذار مقتل الجندي البريطاني الخمسين.
وكان بلير يحلم بتحقيق تقدم بارز في عملية السلام في الشرق الأوسط، غير أن موجة الغضب العارمة التي أثارها تأييده الشديد للسياسات الأميركية خلال حرب تموز على لبنان ألقى بظلاله على دور الوسيط الصادق الذي أداه في الملف الفلسطيني - الإسرائيلي. وصرح بلير لهيئة الإذاعة البريطانية، (بي بي سي)، أخيراً أن عملية السلام ستبقى في صلب انشغالاته خلال السنوات المقبلة نظراً للأهمية التي تمثلها. وهناك من يعتقد بأن بلير يرغب في أن يخدم كمبعوث سلام في الشرق الأوسط، علما أنه سيصعب على بعض قادة المنطقة نسيان انحيازه للإسرائيليين، وهو انحياز ناقضه رئيس حزب المحافظين ديفيد كامرون عندما ندد خلال زيارته الأخيرة لإسرائيل بالمستوطنات الإسرائيلية واستخدم تسمية الأراضي الفلسطينية المحتلة للدلالة على القدس الشرقية.
وفي سياق مختلف، لا تزال الشرطة البريطانية تحقق مع اللورد ليفي، مبعوث بلير للشرق الأوسط والمسؤول عن تمويل حزب العمال، في قضية قبوله رشاً مقابل منح ألقاب فخرية ومقاعد في مجلس اللوردات البريطاني. وقد تنتهي هذه الفضيحة بإلقاء تهم جنائية ضد عدد من أعضاء الحكومة. يذكر أنه سبق القبض مرتين على اللورد ليفي في إطار هذه القضية، شأنه شأن مديرة العلاقات الحكومية روث تورنر.
وكانت هذه الفضــــيحة برزت إثر تعـــيين بلير لعضوية مجــــلس اللوردات أربعة رجال أعمال أقدموا ســراً على تمويل حزب العمال بمبلغ وصلت قيمته الإجــــمالية إلى 5 ملايين جنيه إســترليني، علماً أن منح مقاعد فخرية مقابل المال يدخل في عداد الجرائم الجنائية. كذلك تجري الشــــرطة البريطانية حالياً تحقــــيقات لتحديد الموقع الذي حاول طمس الفضيحة من داخل مجلــــس الوزراء. وخـــضع بلير بنــــفسه مرتين للاستجـــواب لدى الشرطة.
عندما تسلم بلير زمام الحكم سنة 1997، تعهد بوضع حد laquo;للممارسات غير الأخلاقيةraquo; التي طبعت ولاية الحكومة المحافظة السابقة وأكد أنه ينبغي لحزب العمال الترفع عن هذه الأساليب المشينة، واصفاً نفسه بالرجل المستقيم.
ومع أنه لا تتوافر حتى اليوم أجوبة واضحة حول اسم خلف بلير، غير أن احتمال وصول غوردن براون إلى منصب رئاسة الوزراء يتلاشى يوماً بعد يوم. ويشير استطلاع للرأي أجري قبل أيام الى أن ثلاثة أرباع أعضاء حزب العمال يريدون معركة انتخابية بعد رحيل بلير، وهم يرفضون أن يخلفه براون في منصب الرئاسة من دون أي تحد. ويمكن تفسير الشكوك حول أهلية براون لتبوؤ رئاسة الوزراء على أنها ناجمة عن شعبية رئيس حزب المحافظين ديفيد كاميرون لدى الناخبين، وهو لا يتعدى الأربعين سنة.
مشكلة الخلف
كذلك أشار استطلاع للرأي صدر في صحيفة laquo;ذي غارديانraquo; (The Guardian) في العشرين من شباط إلى أن براون لم ينجح في إقناع الرأي العام البريطاني بأنه مؤهل أكثر من كاميرون لقيادة مجلس الوزراء. وأبرز الاستطلاع تقدماً للمحافظين على حزب العمال بفارق ثلاث عشرة نقطة في سباق جمع كلاً من براون وكاميرون والحزب الليبرالي الديموقراطي، ما يعني أن المحافظين سينالون 42 في المئة من الأصوات في حين لن يحصل حزب العمال إلا على 29 في المئة منها.
غير أن مناصري براون ألقوا من جهتهم الضوء على نتائج استطلاع آخر أجري في صفوف أهل الرأي في مجال الأعمال والإعلام والسياسة. وأتت النتائج على الشكل التالي: 80 في المئة من أهل الرأي يعتبرون ان براون يتمتع بالنزاهة، في حين أن 59 في المئة فقط ينظرون إلى ديفيد كاميرون بالطريقة نفسها. واللافت أن نسبة ثلاثة أرباع من أهل الرأي الذين استُطلعت آراؤهم يعتقدون بأن كاميرون يفتقر إلى laquo;حنكةraquo; كبار السياسيين.
وفي خطوة اعتبرها البعض بمثابة تحد لبراون، أطلق وزير الداخلية شارلز كلارك ووزير الصحة السابق ألان ملبورن في أواخر شباط مبادرة سمياها laquo;رؤية سنة 2020raquo; وبادرا الى إنشاء موقع إلكتروني يهدف إلى إفساح المجال أمام مناقشة سياسات حزب العمال المستقبلية.
ووجّه كلارك تحذيراً من خلال قوله: laquo;يتعين على البريطانيين بث الزخم وإعادة إحياء القيم التي يدافعون عنها إن أرادوا تفادي المضي في سلوك طريق مجهول يؤدي بهم إلى الكارثةraquo;. وعلى رغم أن كلارك رجح دعمه لبراون، فقد كان أشد منتقديه في السابق، إذ صرح في مقابلة صحافـــية في أيلول الماضي أن براون يعاني من laquo;مشاكل نفســيةraquo; وأنه laquo;مهووس بالسلطةraquo; ولا يجيد التعاون مع زملائه ضمن الفريق الواحد.
من ناحية أخرى، عمد بعض وزراء حزب العمال وعدد من أعضاء الحزب الى حث وزير البيئة الشاب ديفيد ميليباند، البالغ من العمر 41 سنة، والذي دخل البرلمان سنة 2001، على خوض سباق رئاسة الوزراء إلى جانب براون الذي بدأ في الأشهر القليلة الماضية بتحضير معركته للمنصب مستغلاً إطلالاته للتطرق إلى سلسلة من المواضيع لا تدخل مباشرة في إطار وظيفته كوزير للمال، لا سيما الحاجة إلى الشعور بالمواطنة البريطانية وغيرها من المواضيع العامة.
ومع اقتراب انــــتهاء ولاية بلير، أقدم عدد من زملاء رئيـــس الوزراء الـــقدامى والـــحاليين على التحـــدث عنه بصراحة غير مسبوقة في فيلم وثائـــقي من ثلاث حلقات عُرض على قناة الـ (بي بي سي) عــنوانه laquo;بلير، ذي إنسايد ستوريraquo; (Blair the Inside Story) أي laquo;قصة بلير الحقــــيقيةraquo;، من إخراج مايـــكل كوكريل. وفي إحدى الحلقات، أفصـــح رئيس الوزراء جون بريســـكوت أنه حاول مرات عدة خلال مآدب العشاء التي أقامها في منزله، مصالحة بلير مع غوردن براون. أما وزير الخارجية السابق والرئيـــس الحـــالي لمجلس العموم جاك سترو فوصف بلير بقوله: laquo;انه سيد الغموضraquo;.
حين تولى بلير السلطة كان يردّد: laquo;إنه ينتمي الى أول جيل يمكنه أن يأمل بأن يقضي حياته كاملة من دون خوض حرب أو إرسال أولاده إلى الحربraquo;. لكن الحقيقة أتت معاكسة إذ إنه أرسل الشباب البريطانيين الى خوض خمسة حروب، وهو أمر لم يقدم عليه أي رئيس وزراء بريطاني منذ الحرب العالمية الثانية.
ويذكر في هذا السياق تصريح لوزيرة التنمية الدولية كلير شورت اعتبرت فيه أن تجارب رئيس الوزراء في كوسوفو جعلته يتذوّق laquo;طعم الحربraquo;.
وغالباً ما يتهم بلير بأنه يمشي على خطى جورج بوش، لكن في الواقع، لا بد من الإشارة الى أن بلير كان يصوغ laquo;عقيدة بليرraquo; حتى قبل وصول جورج بوش إلى البيت الأبيض، وهي عقيدة تتضمن الحاجة الى التدخل أحياناً في شؤون دول أخرى، والسعي إلى نشر قيم سامية كالحرية وحقوق الإنسان. حتى أنه قدّم نظرته حول الصراع العالمي بين الخير والشر في تلك الفترة.
ويرى زملاء بلير في شخصه سياسي laquo;المصيرraquo; والرجل المفوّض تأدية مهمة. وهو غالباً ما يردد الجملة التالية: laquo;لأن الصواب يقتضي ذلكraquo;. ويقول بريسكوت في هذا الصدد: laquo;أنظر الى توني بلير وأرى مقاربة مسيحية لمفهوم الإنصاف والصواب. وأعتقد بأنها المصدر الذي يحفّز بلير قبل أي شيء آخر. فهو ليس من أولئك الذين يتفادون الصعاب ويراقبونها عن بعدraquo;.
ويشاطر السير مايكل جاكسون، القائد السابق للجيش البريطاني، بريسكوت رأيه إذ يعتقد أيضاً بأن الدين يشكل الحافز الذي يستمد منه بلير قوته. ويضيف قائلاً: laquo;إن بلير شخص مؤمن وهو مفعم بالمبادئ المسيحية المترسخة في كيانهraquo;. ويقول الرئيس السابق لحزب العمال نيل كينوك: laquo;أعتقد بأن توني يتأثر بالثراء، والبزات العسكرية وعملاء الاستخبارات، والشخصيات الدينيةraquo;.
وما من شك في أن جمع أثرياء العالم في laquo;داوننغ ستريتraquo; في السادس عشر من هذا الشهر سيؤكّد توق بلير الى كل ما له صلة... بالسلطة والثراء.
التعليقات