الثلاثاء 20 مارس 2007
د. محمد عابد الجابري
انتهينا في المقالات السابقة إلى أن ما يؤسس مبدأ الإجماع كـquot;أصل للتشريعquot; هو سلطة السلف والتقليد، أي ما عبر عنه أبو حامد الغزالي بـquot;العادةquot;. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو التالي: من أين جاءت سلطة السلف هذه وما طبيعتها؟
يقول علال الفاسي، وهو من أبرز رجال quot;السلفية الجديدةquot; في المغرب، في معرض رده على الذين طعنوا في إمكان قيام الإجماع، يقول: quot;والحقيقة أن الإجماع ذو أصل أصيل في الدينquot;. وآيات القرآن وأحاديث النبي صريحة في مشروعية العمل بما وقع عليه الإجماع من المؤمنين. ولكن استعمال الإجماع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في تثبيت طريقة اختيار الخليفة وفي طريقة الحكم الشورى هو الذي شكك الشيعة ومن انحدر منهم من المعتزلة في أمر الإجماع وحجِّيته. فحينما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يخلف وصية بمن يخلفه أدت الروح الإسلامية المبنية على التشاور بين المؤمنين إلى قيام الأمة بواجبها في حفظ النظام وحماية البيضة، فاجتمع العارفون في السقيفة وتبادلوا الرأي والدليل، وأجمعوا بعد ذلك أمرهم على مبايعة أبي بكر، ثم وقع إجماع الأمة على قبول ما فعلوه وصار الصدّيق خليفة للرسول غير منازَع من أحد (...). وهكذا نجد أن الإجماع أدى أعظم خدمة للإسلام، إذ فتح باب الاجتهاد والشورى وسهَّل مواصلة العمل الذي قام به عليه السلام. ولكن العصر الأول كان يمتاز بالتشاور في كل ما لا نص فيه، فكان أهل الحل والعقد يشتركون في وضع أسس تاريخية واجتماعية لمصدر الإجماع الشرعي. فلما انحرف المسلمون عن نظام الخلافة والشورى واقتبسوا من الفرس نظاماً يقوم على أساس الحكم المطلق الوراثي، الأمر الذي أثار كثيراً من الانتقاد الذي أعلنه المجتهدون وقادة المسلمين، فكان لابد من تقييد النظر لحماية السلطة المُطلقة الصاعدة، وقد أصاب ذلك، فيما أصاب، فكرةَ الإجماع الحقيقية كما فهمها المسلمون الأولون، وأَحدَث حولها خلافاً بَعُدَ بها عن محيطها الأصلي. فالإجماع كما يُتحدث عنه منذ القرن السادس عبارة عن اتفاق الناس في كل بقعة من بقاع الأرض، وذلك بالطبع ما لم يفهمه المسلمون الأولون وما لا تدل عليه نصوص الكتاب والسُّنةquot; (علال الفاسي. مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها. ص115-116).
نحن هنا أمام ثلاثة أفكار رئيسية:
1) إن الإجماع ولو أنه quot;أصل أصيل في الدينquot; (لم يقل أصلاً من أصول الدين)، فإن أمره يرجع تاريخياً إلى حادثة سياسية، وهي اجتماع الصحابة لاختيار خليفة للنبي عليه الصلاة والسلام بعد وفاته.
2) إن العصر الأول، عصر الصحابة، عصر بناء الدولة الإسلامية، قد امتاز بالتشاور في كل ما لا نص فيه، وأنه من خلال عملية التشاور هذه quot;كان أهل الحل والعقد يشتركون في وضع أسس تاريخية واجتماعية لمصدر الإجماع الشرعيquot;، بمعنى أن quot;الإجماعquot; كأصل من أصول التشريع إنما يجد مصدره في التاريخ والمجتمع، لا في أي شيء آخر، وأنه إنما يعني من الناحية العملية: التشاور في كل ما لا نص فيه.
3) إن تحول الحكم في الإسلام بعد quot;العصر الأولquot; إلى quot;الحكم المطلقquot; قد أدى إلى quot;تقييد النظرquot; والقضاء على quot;التشاورquot; وبالتالي على المضمون الحقيقي لفكرة الإجماع.
لاشك أننا هنا أمام تأويل موضوعي تاريخي لنشأة فكرة quot;الإجماعquot; وتطورها، ولا نظن أحداً من المفكرين يعارض اليوم النتائج السياسية التي يفرضها هذا التأويل والتي يعبر عنها علال الفاسي نفسه حينما يدعو الدول الإسلامية quot;أن تجعل من أنظمتها الديمقراطية الحديثة سبيلاً لبعث الشورى الإسلامية وتحقيق معنى الإجماع الإسلامي لأول مرةquot;. ويصيف: quot;إن الاستبداد الذي أصاب نظام الحكم الإسلامي هو الذي حول التطور في تنظيم الشورى والإجماع إلى مجادلات فارغة في حجية الإجماع وإمكان وقوعه وعدم ذلكquot; (نفسه 117- 118).
إن هذا يعني، بعبارة أخرى، أن كل المناقشات والخلافات والاعتراضات التي عرفها تاريخ الفقه الإسلامي حول quot;الإجماعquot; كانت نتيجتها الملموسة، ولربما الوحيدة، هي تمييع فكرة الإجماع وبالتالي إقرار الاستبداد. ولا يعني هذا أن الفقهاء قد أرادوا ذلك واختاروه، بل إن تغلب الاستبداد وquot;انقلاب الخلافة إلى ملك عضوضquot; كما يقولون، هو الذي أدى إلى ذلك.
هذه القراءة السياسية قد يقبلها المؤرخ فضلاً عن السياسي. غير أن الباحث الإيبيستيمولوجي (الفاحص لأسس المعرفة) لا يستطيع أن يقف عند حدود القبول، بل هو يتساءل ويتفحص ويستنتج. وفي هذا الصدد لابد من القول إن تمييع فكرة الإجماع لفائدة الاستبداد في quot;الحاضرquot;، حاضر الفقهاء في كل عصر وجيل، قد جعل الأنظار تتجه بـquot;الإجماعquot; إلى الماضي، إلى quot;السلفquot; لتجعل منه ليس فقط المؤسس لـquot;الإجماعquot; كـquot;أصلquot; تشريعي، بل أيضاً كخاصية لـquot;المدينة الفاضلةquot; التي مورس فيها وحدها. والنتيجة هي استبداد quot;مدينة السلفquot;، هذه المتخيَّلة، بعقول الفقهاء، مما أضاف إلى الاستبداد الجائر القائم في quot;الحاضرquot; استبداداً آخر quot;فاضلاًquot; ماضياً، فكان الاستبداد الذي عانى منه العقل البياني استبدادين: استبداد الحكام بالسياسة، واستبداد السلف بالمعرفة، ومن دون شك فإن الوقوع في الثاني إنما كان بسبب الهروب من الأول، بسبب عدم القدرة على مواجهته والتصدي له.
ونحن إنما قلنا quot;العقل البيانيquot; ولم نقل quot;العقل الفقهيquot; لأن سلطة quot;الإجماعquot; قد امتدت إلى الحقول البيانية الأخرى من نحو وبلاغة وكلام...
لنستعرض بعض مظاهر هذه quot;السلطةquot; خارج التفكير الفقهي لنرَ إلى أية درجة كان هذا quot;الأصلquot;، وربما ما يزال، من أقوى السلطات المرجعية في الحقل المعرفي البياني ككل.
لقد تبنى علماء العربية، من لغويين ونحويين وبلاغيين، الهيكل الصوري لـquot;علم أصول الفقهquot; فجعلوا من النص (=السماع، النقل) والإجماع والقياس، الأصول الثلاثة الأساسية في علوم اللغة، كما جعلوا، شأنهم في ذلك شأن الأصوليين الفقهاء، من الاستحسان والاستصحاب.. الخ، أصولين مكملين. وهكذا فبالنسبة لـquot;الأصلquot; الذي يهمنا هنا -الإجماع- نجد ابن جني الذي كان من أكبر quot;المتكلّمينquot;، في أصول النحو يعقد بابا بعنوان: quot;باب القول في إجماع أهل العربية متى يكون حجةquot; يقول فيه: quot;اعلمْ أن إجماع أهل البلدين (الكوفة والبصرة) إنما يكون حجة إذا أعطاك خصمك يده ألا يخالف المنصوص والمقيس على المنصوص. فأما إن لم يعط يده بذلك فلا يكون إجماعهم حجةquot;. ومع أن ابن جني يربط العمل بـquot;إجماع أهل العربيةquot; بموافقة quot;الخصمquot; (صاحب الرأي المخالف)، على التقيد بالنص وما قيس عليه، فإنه يعود فيجعل سلطة الجماعة -جماعة النُّحاة- ملزمة في كل الأحوال. يقول: quot;إلا أننا مع هذا الذي رأيناه وسوغناه لا يسمح له بالإقدام على مخالفة الجماعة التي طال بحثها وتقدم نظرها وتتالت أواخر عن أوائل، وأعجازاً عن كلاكلquot; (ابن جني، الخصائص،. ج1. ص 189).
واضح أن ابن جني يؤكد هنا على عدم جواز مخالفة quot;إجماعquot; النحويين، وهو المقصود بـquot;الإجماعquot;، عندما يتعلق الأمر بالإجماع في العربية. وهذا مأخوذ من علماء أصول الفقه الذين ناقشوا المسألة وقرروا أن المقصود بـquot;الإجماعquot; هو إجماع quot;المجتهدينquot; وليس إجماع عامة الناس. ويؤكد ابن جني هذا المعنى في سياق آخر: جواز أو عدم جواز الاقتداء بالنحويين -أي تقليدهم مثلما يقلد الناس المجتهدين في الفقه- فيقول: quot;ولما كان النحويون بالعرب لاحقين، وعلى سمتهم آخذين، وبألفاظهم متحلين، وبمعانيهم وقصودهم مٌلمين، جاز لصاحب هذا العلم(...) أن يرى فيه نحواً مما رأوا ويحذوه على أمثلتهم التي حذوا، وأن يعتقد في هذا الموضوع نحواً مما اعتقدوا في أمثالهquot; (ج1. ص 189 ).
نعم هناك من النحاة من استغنى عن quot;أصل الإجماعquot;، غير أن احتفاظهم بالأصول الأخرى جعل فكرة quot;الإجماعquot; التي حاولوا إخراجها من الباب تعود إليهم من النافذة. فأبو البركات ابن الأنباري الذي جعل أصول النحو ثلاثة لا غير: نقل، وقياس، واستصحاب حال، (لمُع الأدلة في أصول النحو)، لم ينتبه ndash;ربما- إلى أن مفهوم quot;استصحاب الحالquot; يحمل نفس المعنى الذي فسر به الغزالي فكرة quot;الإجماعquot;: معنى العادة.
وبعد، فيقول مثل مغربي، ولعله عام، quot;معزة ولو طارتquot;، وأصل هذا المثل أن رجلين في الصحراء رأيا حيواناً أسود بعيداً عنهما، فقال أحدهما هو: غراب، بينما قال الآخر: بل هو معزة. وتشاحنا وتعصَّب كل لرأيه. ولما طار ذلك الحيوان واتضح أنه غراب، قال الرجل الآخر: quot;معزة ولو طارتquot;. فصار مثلاً.
نحن لسنا من هذا النوع من البشر. كل ما نريد هو تجنب الوقوع في الخلط بين المعزة والغراب بسبب السواد، وربما بسبب ضعف البصر كذلك. ولذلك قلنا في مستهل المقال الأول من هذه المقالات حول الإجماع ما يلي: quot;غرضنا في هذا المقال -وفيما يليه في الموضوع نفسه- هو إلقاء بعض الأضواء على مفهوم quot;الإجماعquot; كما ناقشه العلماء الأصوليون، عسى أن تُـنبِّه هذه quot;الأضواءquot; من يحتج بـquot;الإجماعquot;، من غير المختصين وعن غير علم، إلى ضرورة عدم التسرع في الاحتجاج به لإثبات حكم أو نفيهquot;.
عدم التسرع معناه: عدم الاستسلام للعادة، أقصد العادة الفكرية التي تحكمها quot;الأفكار المتلقاةquot; التي وصفناها في مقال سابق بأنها quot;عوائق معرفيةquot;. والمبتلون بالعوائق، مهما كانت، معذورون على كل حال.
التعليقات