الثلاثاء 27 مارس 2007

د. طيب تيزيني

منذ بضعة أيام مرت أربع سنوات على احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة، ولن نتناول هذا الحدث من موقع عسكري ولا سياسي ولا استراتيجي... الخ، وإنما سيكون ذلك منطلقاً من وجهة نظر أخلاقية. فما المنحى الذي يمكن أن يأخذه النظر إلى الحرب الأميركية على العراق من موقع أخلاقي لا يقطع مع أخلاقيات البشرية المتشكّلة حتى الآن، ولكن أيضاً لا يتوقف عند ذلك بل يسعى إلى تطويره عمقاً وسطحاً؟ إن إجابة على هذا السؤال تُحيل إلى الحوارات والسجالات والكتابات، التي ظهرت على امتداد قرون مديدة، وخصوصاً مع تشكل المجتمعات المنظمة بقدرٍ ما على أساس ضبط العلاقة بين السياسي والإيديولوجي والعلمي من طرف، وبين الأخلاقي من طرف آخر. أما هذا quot;الأخلاقيquot; في حدّه الأدنى الحاسم، فإنه لا يمكن أن يكون خارج المبادئ الثلاثة التالية، التي جاءت في quot;الإعلان العالمي لحقوق الإنسانquot; الصادر في 10 ديسمبر من عام 1948: quot;المادة (3): لكل فرد الحق في الحياة والحرية والسلامة الشخصيةquot;. quot;المادة (1): يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وُهبوا العقل والوجدانquot;. quot;لما كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية والثابتة، هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم... -من الديباجةquot;. (ضمن بحث لنعوم تشومسكي بعنوان: مظلة القوة الأميركية).
تلك الأفكار إذا ما اختُبرت في ضوء احتلال العراق أميركياً منذ أربعة أعوام، فإن الإجابة أو بعضها، على الأقل، تقف على التضاد مع هذا الاحتلال، وثمة إيضاح دقيق ها هنا ويقوم على التأكيد على الفصل النسبي الضروري بين المسوّغات السياسية والاستراتيجية والعسكرية التي قدمتها الإدارة الأميركية لتمنح الاحتلال المذكور شرعية دولية ودولتية من طرف، وبين الالتزامات والاستحقاقات الأخلاقية الإنسانية من طرف آخر. فحتى حين يُقرّ بشرعية تلك المسوغات (والأمر في واقع الحال لم يكن كذلك)، فإن انتهاك الوجدان الأخلاقي للشعب العراقي من قِبل قوات الاحتلال، جنباً إلى جنب مع خدش الكرامة الوطنية والتراث الوطني لهذا الشعب، يشكل حالة تصل إلى حدود قصوى من الفظاعة. لقد تدفقت قوى الاحتلال إلى داخل العراق دونما أية شرعية دولية، رغم ما قدمته من مسوّغات زائفة لهذا التدفق ظهرت بصيغتين اثنتين، واحدة تعلقت بـquot;أسلحة الدمار الشاملquot; موهومة وملفّقة، وأخرى انطلقت من الخطاب الاستعماري المعهود القائم على حق الدول الغربية أو غيرها في التدخل بشؤون بلد أو آخر من بلدان quot;التخلف والتخليفquot;، بهدف رفعه إلى مستوى رفيع من quot;التقدمquot; بمقياس الحداثة الغربية.
وإذا كانت الإدارة الأميركية قد اعترفت بزيف الادعاء بوجود أسلحة دمار شامل، فإنها لفّقت ادعاء آخر تمثل في غياب الديمقراطية بالعراق. وبناء على هذا، أوصلت المسألة إلى منح نفسها حق التدخل في العراق، بهدف إدخاله في عالم الديمقراطية. وحيث كان الأمر على هذا النحو، فقد تشكلت المعادلة التالية في الفكر العولمي الأميركي: إن ما لم نجده في العراق من أسلحة دمار شامل، أوجدناه بصيغة أخرى، هي أسلحة تفتيت العراق تفتيتاً مدمراً شاملاً. وقد سار الأميركيون وحلفاؤهم في هذه المعادلة إلى آخر حدودها، وهي المتمثلة في تدمير الشعب العراقي تدميراً بيولوجياً مُمنهجاً، بحيث لم يطَلْ عملهم هذه القوى السياسية العراقية المناهضة لهم فحسب، بل هم أوصلوا الأمر إلى أوساط كل فئات هذا الشعب، من حيث هم فئات بشرية تمارس حقها الأولي في الحياة، فخلطوا، بذلك، بين المستوى الطبيعي والمستوى الوضعي: إن المستوى الأول مقترن بالإنسان من حيث هو إنسان، قبل أن يكون سياسياً وقضائياً وقانونياً... الخ. ومن ثم، فإن الحفاظ على حقه في الحياة إنما هو أمر quot;مفهوم بذاتهquot;، دون إضافة أخرى. وإذا أتت هذه الإضافة، فإنها لا تزيد على أنها أقرت ما هو مُقَرٌ بذاته، ولكن الآن بقوة القانون والعقد الاجتماعي.
لقد تم قتل أكثر من 750 ألف ضحية في العراق معظمهم أو جلّهم، من المدنيين، الذين حسبوا أنهم إنْ لم يشاركوا في المعارك، فإنهم يحتفظون بحيواتهم، وبحسب تقديرات أولية، يُقتل يومياً من العراقيين من مئة إلى مئة وخمسين شخصاً. وأفضى ذلك -مع غيره- إلى تحويل عمليات القتل إلى نمط من التطهير العرقي، وهذا هو أكثر أشكال الجريمة ظلامية وتعاسة. ومن ثم، فإن الردع الأخلاقي والحوافز الأخلاقية، التي تتعلق بالمستوى quot;الطبيعي البيولوجيquot; في هذه الحال، ليس غائباً فحسب، وإنما يوظّف -كذلك- في القتل. في هذا السياق، يصح استعادة ما كان مفكرون إنسانيون يرددونه: كلما ارتفعت قيمة الأشياء، انحطت قيمة الإنسان.