الأثنين 16 أبريل 2007


خالد الحروب

كاتب هذه السطور يُقر ابتداءً بأن معظم ما سيلي من نقد في هذه المقالة يطاله هو أولاً، ثم من أهمل مأساة دارفور مثله ثانياً, قصداً أم كسلاً. تهمة quot;الإهمال العنصريquot; إزاء الجريمة الإنسانية التي ما زالت تحدث أمام أنظارنا كعرب ومسلمين منذ أربع سنوات، تكاد لا تستثني منا أحداً. بالكاد نمن عليها بأقل القليل من الاهتمام الإعلامي, ناهيك عن السياسي أو التحرك الفعال. إعلاميونا وكتابنا ومثقفونا (وأنا منهم) وسواء في الإعلام الفضائي أو المكتوب أو في المنتديات الفكرية والمؤتمرات يخصصون أقل القليل لأحداث دارفور وتطوراتها والجرائم اليومية التي تحدث هناك. تختصر القضية عند كثيرين في الابتسار السمج الذي يكرر اللازمة الفجة، وهي أن الموضوع مؤامرة غربية ضد السودان. ضد السودان من أجل ماذا, وبأي هدف؟ لا نعرف. هل السودان أو أي دولة عربية تحتاج إلى مؤامرة غربية عليها حتى تنشد رضا الغرب والتعاون معه, وربما الانصياع لما يطلب؟ لا نعرف. لكن إذا كانت فعلاً مؤامرة غربية ونحن جميعاً quot;اكتشفناهاquot;, بما فيها حكومة السودان طبعاً, فكيف تنجر لها الحكومة quot;الإسلامية الرشيدةquot; في الخرطوم، وتتسبب في تفاقهما وتساهم في إبقاء نزيف الموت اليومي إلى هذه اللحظة؟ أليس من أبجديات درء المؤامرة هو عدم الانخراط في تحقيق أهدافها؟
لو تأملنا تغطياتنا الإخبارية اليومية في عالم العرب لرأينا كم نحن منحازون لقضايا معينة، وغارقون فيها بطريقة تكاد تكون مريبة بسبب إهمالنا لقضايا أخرى، لا تقل عنها أهمية وإنسانية. مشاهدو الفضائيات العربية من المحيط إلى الخليج صاروا يعرفون أسماء قادة الأجنحة العسكرية للتنظيمات الفلسطينية, وربما مرتباتهم الشهرية, وبنود الاتفاقات المناطقية بين quot;فتحquot; وquot;حماسquot;. ويعرفون أسماء الوزراء والنواب اللبنانيين, الموالين والمعارضين, وحيثيات الخلاف على المحكمة الدولية, ويحفظون الألفاظ التي يتنابز بها نصرالله وجنبلاط، ويتابعون من أي حارة انطلق انتحاري موتور في منطقة ما في بغداد ليفجر نفسه ومعه ثلة من الأبرياء, في حرب الكل ضد الكل في بلد الرشيد. لكن بموازاة ذلك كله، هل يتذكر أحد من القراء أي شيء محدد عن دارفور, سوى أن هناك كارثة ما, يموت فيها أفارقة ما, في حرب ما؟
في دارفور كارثة يومية، ربما يموت فيها مع مغيب كل شمس عدد من القتلى أكبر ممن يموتون في العراق وفلسطين وبقية بلدان العرب مجتمعة. قتلى دارفور أرقام لا أسماء لهم. في دارفور اغتصابات جماعية وتهجير يومي وقتل على الولاء والقبيلة, ونهب لا تُعرف فيه هوية الناهب أو المنهوب. نساء دارفور أرقام لا أسماء لهن. هناك حرب مجنونة قُتل فيها لحد الآن، وبحسب التقديرات المتواضعة، أكثر من مائتي ألف بريء, خلال أقل من أربع سنوات. حرب تتسابق في تسعير جنونها ميليشيات المتمردين وميليشيات الحكومة. الحكومة التي فشلت في كل شيء إلا في الادعاء بفرض السيادة على عدة ملايين من المعدمين وشبه العراة هناك, وتصرخ صباح مساء بأنها لن تسمح بمس سيادة السودان! لم يهم هذه الحكومة أن يهجّر أكثر من مليوني مسكين من تلك المنطقة, وأن يتحولوا إلى عالة يعيشون على حواف الموت في خيام الإغاثة الطارئة, أو يهيمون في صحارٍ لا حدود لها, أو تنقطع السبل بآلاف منهم على الحدود التشادية، ويموت منهم من يموت، ولا تعرف قبره إلا كواسر الطير. كل ذلك لا يهم, ما يهم هو السيادة المزعومة.
كيف يمكن لنا كبشر, قبل أن نكون عرباً أو مسلمين, أن نتساهل في قضية يموت فيها هذا العدد من الناس كل يوم، ولا نحفل حتى بأعداد الموتى؟ أو ليست كرامة الإنسان وقيمة حياته هي الأقنوم الأكثر قداسة في كل معايير وألواح العقائد أرضيها وسماويها؟ ألا تحتاج ضمائرنا (وضميري في مقدمتها) إلى علاج بالصدمة والصفعة حتى تستيقظ وتقول: لا للموت الرخيص في دارفور, وتحمل الحكومة المسؤولية الأولى فيما يحدث. فهي صاحبة القرار الأول, وهي التي أهملت تلك المنطقة سنوات طوالاً، فتراكم فيها الفقر والغضب والتمرد. ولما علا صوته واعترض لم تستجب له إلا بالقنابل والمدافع وجنون ميليشيات quot;الجنجويدquot; التي عاثت في تلك الأراضي فساداً.
اليوم تتسع المأساة وتعقيداتها على قدرة الحكومة على الحل. على المستوى الإنساني والإغاثي، وهو الأكثر إلحاحاً، تعد كارثة دارفور اليوم من أكبر وأبشع الكوارث التي هي من صنع البشر وتشهدها الأرض. وهي تحتاج إلى تدخل إنساني عريض ليس من الأمم المتحدة والدول المجاورة فحسب، بل وأغلب المنظمات الإنسانية وغير الحكومية الفاعلة في العالم. على المستوى السياسي والعسكري، ومع تناسل فصائل المتمردين وانشقاقاتها التي لا تنتهي وجرائم بعضها التي تنافس جرائم ميليشيات quot;الجنجويدquot;, واستمرار تعنت الطرف الحكومي وغطرسته يصبح من شبه المستحيل أن تكون الحكومة السودانية هي الخصم والحكم. لذلك كان لابد من التدخل الدولي, الأفريقي أولاً وهو المفضل, ثم الدولي العام إن لم ينجح الأول.
إيقاف دوامة الموت اليومي في دارفور يجب أن يكون الهدف الأول والسريع الواجب تحقيقه. لماذا يموت الناس هذه الميتات الرخيصة، والتي لا معنى لها؟ وسواء تحقق هذا الهدف بتدخل قوات أممية أم أفريقية أم غربية، فيجب أن يتم. والتعذر بمسألة السيادة وكأنها أمر مقدس يجب أن تزهق مئات الألوف من الأرواح quot;دفاعاً عنهquot; هو عذر سقيم وسخيف. الدولة والحكومة التي تسمح بأن يُقتل على أراضيها مائتا ألف مواطن من مواطنيها خلال أربع سنوات, وتكون هي أيضاً منخرطة في مسلسل القتل هذا، يجب أن تتعرض للمساءلة.
أما نحن, نحن جميعاً وبلا استثناء, قراءً وكتاباً وأعضاء في ما يُسمى الرأي العام العربي, فنحن متهمون بالتواطؤ حتى تثبت براءتنا. مطلوب منا أن نسمع الوجع القادم من دارفور، ونتألم لألمه ونحاول مد اليد: بالمساعدة والإغاثة, أو برفع الصوت والتنديد, أو بالمطالبة بأدوار سياسية وحكومية فعالة لدول وحكومات المنطقة التي هي الأخرى أكثر تواطأً منا إزاء ما يحدث. أما جامعتنا العربية العتيدة والتي تنهمك في الدفاع عن سيادات الحكومات أكثر من سيادات الشعوب، فهي الأخرى متهمة حتى تثبت براءتها. لا تفيد المناشدات ولا التصريحات الصحفية العابرة، ولا التأييد القبلي الأعمى لحكومة السودان ضد أي مشروع دولي للتدخل وإيقاف مسلسل الموت. الذي يفيد هو أن نضع مصلحة الشعوب قبل الحكومات, ونضع هدف الحياة, أن يحيا الناس, قبل هدف أن يموتوا, ونصمت على قاتليهم, بل ونشارك في قتلهم ربما.