ستيف ريتشاردز - الاندبندنت
في النهاية، ها هو توني بلير يسرح نظره وراء، إلى البداية. ويعترف خلال كلمة الاستقالة التي ألقاها مؤخراً، بأن التوقعات ربما كانت كبيرة جدا عندما اصبح رئيسا للوزراء أول الأمر. ولم يكن في حاجة إلى تقييم ما جرى؛ فقد كانت الآمال عندما جاء الى السلطة مفرطة في اللاعقلانية إلى حد جعل قدره محكوماً بخيبة الأمل.
في أيار - مايو 1997، حقق بلير أكبر نصر ساحق منذ الحرب العالمية الثانية. ولسنة على الاقل، كان من شبه المستحيل الالتقاء بأي شخص يعترف بأنه لم يصوت لصالح العمال. وخلال اطول شهر عسل سياسي في التاريخ، أثنى المحافظون السابقون والمؤيدون الدائمون لحزب العمال وشرائح ضخمة من وسائل الاعلام على ما كان رئيس الوزراء الشاب قد أسماه فجرا جديدا.
لكننا إذا ما تأملنا وراء، لوجدنا أن ثمة الكثير من المؤشرات في تلك الأيام المسكرة إلى ما سيأتي. وكان لا ينبغي لشيء مما حدث في السنوات العشر التالية أن يشكل مفاجأة؛ فمنذ البداية كان كل شيء هناك أمام أنظارنا.
قبل كل شيء، أنظر الى الأنماط المختلفة التي كانت تحتفي بانتصار العمال في تلك الليلة الشهيرة. فتلك الصحف التي كانت تمتدح مارغريت ثاتشر كانت تحيي بلير. اما صحف يسار الوسط، فكانت تبدي حماسا مماثلا. وفي عموم البلاد كان الناخبون في الدوائر المحافظة يتبادلون الانخاب ترحيباً برئيس الوزراء المقبل، كما كان مؤيدو حزب العمال في ذروة النشوة.
في وقت مبكر، اعلن بلير عن أن quot;كامل البلاد تشكل دائرتنا الانتخابية المحوريةquot;. وكان قد أقام خيمة كبيرة تغص بالمؤيدين الصلبين ممن كان لديهم آراء لا يمكن التنازل عنها في مناطق السياسة، بدءاً من اوروبا وحتى مستقبل قطاع الخدمات العامة. وقد قرر بلير وضع نفسه في مركز الخيمة الكبيرة. وفي الأثناء، تم خطب ود صحف اليسار واليمين بمواظبة. وأصر بلير على ان بريطانيا مؤيدة محتملة لأوربا، واقرب الحلفاء للولايات المتحدة. وقال ان الخدمات العامة ستتحسن، وان حقبة الضرائب المرتفعة قد ولت. ومع أن بلير غالبا تحدث عن خيارات صعبة، إلا أن هدفه السياسي كان احيانا تجنب صنع هذه الخيارات. وكانت هناك دائماً طريق ثالثة يمكن للجميع سلوكها.
لقد كانت عملية الحصول على هذه الطائفة الواسعة من الاتباع عامل تحرير وكبح في ذات الوقت، وكانت هي مصدر قوة بلير والسبب في فشله في آن.
كان الشيء الاكثر جوهرية من كل شيء هو ان القبول الواسع الذي تمتع به قد منح العمال ثلاثة انتصارات كبيرة، وهو انجاز استثنائي في بلد كان قد انتخب حزبا محافظا يميني النزعة لثمانية عشر عاما متصلة. كما أصبح لديه إرث يمكن مقارنته مع اي من رؤساء الوزارات الذين مكثوا على رأس مناصبهم لفترة طويلة نسبياً.
كانت هناك اصلاحات دستورية واسعة النطاق. واستطاع الاستثمار في قطاع الخدمات العامة أخيرا أن يلحق بركب باقي اوروبا وبدأ بتغيير نوعية حيوات بعض الناس. أما على الصعيد الاجتماعي، فقد أصبحت بريطانيا مجتمعاً اكثر تسامحا بما لا يقارن. ففي التسعينيات من القرن الماضي، نجمت قصة اخبار كبيرة عندما قام الممثل الشاذ جنسياً، ايان ماككلين بزيارة جون ميجر في داوننغ ستريت. وقد عمد معظم أعضاء حزب ميجر إلى توبيخه لانه اجتمع مع شخصية شاذة. أما في ظل حكم بلير، فقد كان هناك العديد من الاشخاص الشواذ في الحكومة وفي إطار الشراكة المدنية. كما تم إجبار قيادة المحافظين في كثير من الجبهات على الظهور بمظهر أكثر ليبرالية وانسانية، تاركة نشطائها عالقين في الماضي.
ومن منظور اقتصادي، فقد أصبح لدى كل شخص تقريبا دخل أكبر قابل للتصرف به. وقد بات الفقراء اقل فقرا، فيما أصبح وضع المتقاعدين افضل بكثير مما توحي به الجدالات الاخيرة. لكن ما اثار بلير اكثر ما يكون كانت المبادرات التي شكلت نذيراً لحزبه ومالت الى إرضاء الجناح اليميني في داخل خيمته الكبيرة، وهو الذي كان قد أعلن عندما دخل داوننغ ستريت ومنذ البدء عن أنه فاز كعمالي جديد وانه سيحكم كعمالي جديد. وكان ذلك بمثابة تحذير لحزبه واعادة تطمين لمؤيديه الجدد في اليمين، سواء في قطاع الاعمال التجارية او في غيره، باعتباره سيقود نمطا مختلفا من الحكومة العمالية. وقد بدا تقريبا وكأنه قد دخل الى داوننغ ستريت وهو يحمل روح هارولد ويلسون على كتف، وروح مارغريت تاتشر على الكتف الاخرى.
مثل لاعب البطولة في فيلم سوداوي، قاد تصميم بلير على أن لا يكون عماليا قديما وان ينظر اليه على انه مختلف الى وقوعه في سلسلة من المصائد المروعة، من النوع الذي كان بمثابة الكوابيس بالنسبة لاسلافه؛ اذ لم يوافق قادة الاعمال على حزب العمال القديم. وقد خطب بلير ودهم بدون نظرة نقدية، ناظرا الى دعمهم بوصفه شكلاً من الصون أكثر من كونه مؤشراً المخاوف. وفي الغضون، كانت بعض الفضائح التي حامت حول بلير، وان كانت قد جاءت من طرف إعلام معاد، قد جاءت من جراء علاقاته مع الاثرياء جداً.
كان بلير مصمما ايضا على عدم السماح لحزب العمال بأن يقرر مسار حكومته كما حدث في السبعينيات من القرن الماضي. ولذلك، استطاع أن يحوز على الكثير جدا من السيطرة وحتى انه التف على امين خزينة حزب العمال عند رفع قيمة التمويل من اجل الانتخابات الاخيرة. أما التلويح بقضية quot;المال في مقابل الألقابquot; فقد كانت تحقيقاً بوليسياً طغى على سنته الأخيرة في السلطة.
على قدم المساواة، نجم دعمه للرئيس جورج بوش والحرب على العراق من خشيته من ان ينظر اليه على انه معاد لاميركا. وقد كان حزب العمال ذا نزعة أحادية عند خسارته الانتخابات في ثمانينيات القرن الماضي، ويجب ان يكون العمال جديدا الان وهو يدعم رئيسا جمهوريا ويذهب معه الى الحرب. وقد لعبت فكرة التكيف السياسي دورها في قرار بلير المصيري بدعم الحرب ضد العراق على الرغم من كل احتجاجاته بالنسبة لاتخاذ القرارات بدون قناعة.
منذ أمد طويل، كان بلير قد استنتج أن الحكومات المحافظة بينما تستطيع أن تحكم من اليمين، فإن الادارات العمالية تستطيع الحكم فقط من الوسط. لكن تصميمه الثابت على الاحتفاظ بالارضية الوسط غالبا ما فشل في توفير طريق واضح في مفاهيم السياسة. وبعد انتخابات عام 2001، كان بلير واثقا من أنه لم يكن ثمة حاجة لرفع الضرائب بغية الدفع لمزيد من الاستثمارات في الخدمات العامة. وادرك براون ومستشارو بلير المتجذرون اكثر سياسيا أن هناك حاجة لمزيد من السيولة. ومن دون تخطيط براون اليقظ فيما يتعلق برفع الضرائب في عام 2002 ما كان للاستثمار الذي يستشهد به بلير الان على انه جزء من ارثه ليحدث.
ومع ذلك، قام بلير بخدعة سحرية سياسية غير عادية عندما تمسك بأرضية الوسط. وبإشراق مسرحي، ادعى دائما بأنه الشخص الشجاع في وقت كان يعزز فيه على نزعة التزمت بشك حذر. وكانت افكار مؤتمراته الصحفية الشهرية في داوننغ ستريت مثالاً على ذلك. فقد رحب في القليل منها صراحة بحقيقة ان يسار الوسط غير راضٍ عن سياساته. وبشر في كثير من الاحيان بالاهمية البالغة لوقوف بريطانيا quot;جنبا الى جنبquot; مع الولايات المتحدة. وقد اختار احيانا ابراز اهمية أن يقوم القطاع الخاص بإدارة الخدمات العامة. وفي احدى المناسبات امتدح وضع حد لاباحية الستينيات. ولأن مارغريت ثاتشر كانت تبشر بنفس تلك الرسائل لثمانية عشر عاما، فقد كانت بريطانيا مستعدة لسماع شيء جديد. لكن بلير كان أنهى فترة تدريبه السياسي في الثمانينيات، وقد اختار في أفكاره العامة المختارة أن يقدم للبلاد المزيد من الأطروحات ذاتها.
وحتى مع ذلك، فإن المساحة المحدودة التي شغلها في ارضية الوسط اعطته بعض الحيز للقيام بنشاط ايجابي، وفي إحدى الحالات اختراقاً في الشروط المحددة تاريخياً، فكانت التسوية السلمية في ايرلندا الشمالية مثالا مدهشا لسياساته في افضل حالاتها. وفي موضوع أبعده عن قلقه المعتاد من الإعلام ومن طبيعة رد فعل المحافظين، خاض بلير المجازفة تلو المجازفة في ساعات لا تنتهي من المباحثات. اما اولئك الذين يتهمونه بأنه غير مبال بالموت بسبب العراق، فإن عليهم ان يفسروا سبب استنفاده وقتا كبيرا في السعي لإحلال السلام في ايرلندا الشمالية.
كان بلير ايضا اكثر رؤساء الوزراء في بريطانيا تأييداً لأوروبا منذ تيد هيث. وكان هيث قد خرج من السلطة مباشرة بعد ان اخذ بريطانيا الى اوروبا. وقد اختبرت طريقة بلير في التعامل مع اوروبا لاكثر من عشر سنوات. ومع أن كل رئيس وزراء، وحتى ثاتشر، عادة ما يستهل ولايته بإعلانه نيته العمل بشكل ايجابي مع اوروبا، إلا أن بلير كان الوحيد الذي تمسك بذلك وانهمك فعليا في كل قضية بهذا الصدد، ساعيا للعمل إيجابياً مع معظم قادة الاتحاد الاوروبي. وقد بدا بلير مرتاحا وصاحب حضور خاص على المسرح الاوروبي. وفيما أصبح الكثير من الناخبين البريطانيين خلواً من الأوهام إزاءه، فإن القادة في عموم اوروبا اتخذوه مثالا يحتذى. وكان من بين هؤلاء الزعماء الكثير من اليمينيين.
تضمن كلمة استقالة بلير في العاشر من الشهر الجاري شرحا لأسباب تهاونه واطراحه الانتقاد مع اليمينيين مثل بوش وبرلسكوني. وكانت كلماته في سيدجفيلد رئاسية وغير سياسية. وكانت هناك محاولة صغيرة فحسب لإسناد قيم تقدمية إلى العقد الذي أمضاه في السلطة. وبدلا من ذلك، فقد أصر بغموض على انه سعى لعمل ما كان صوابا، وأنه في العلاقة مع العراق كان quot;وحيداً مع دوافعه الفطريةquot;. ولم يكن بلير يحتاج إلى أن يكون وحده، وكان بمقدوره ان يستمع الى التحذيرات من بعض اعضاء المجلس الوزاري ومن الحزب، لكنه اختار أن لا يفعل ذلك.
خلال حقبة بلير، كانت هناك الكثير من التقارير غير الدقيقة إزاء الهلهلة واللف والدوران. وقد كان بلير زعيما طيب النوايا واكثر اهتماماً بجوهر السياسة مما هو معروف على نطاق واسع. لكن الغرابة التي تستحق المزيد من الدراسة والفحص هي ان حزب العمال ظل، ولاكثر من قرن تحت قيادة شخصية لم تكن في يسار الوسط ولا في الجانب المحافظ. وبالرغم من ان الناخبين قد اداروا ظهورهم له، الا ان بلير سعى دائما إلى أن يكون قائد البلد برمته والذي اعتبره دائرته الانتخابية المحورية.
تاريخ ولاية بلير بالأرقام: الأرقام الهامة خلال السنوات العشر الماضية.
33.809.782: عدد الاشخاص الذين صوتوا لحزب العمال تحت قيادة توني بلير في ثلاثة انتخابات عامة.
28%: نسبة التأييد لبلير بعد عشر سنوات في الحكم بارتفاع قدرة 3% عن نسبة التأييد في مستهل السنة. وكانت نسبة تأييد مارغريت ثاتشر بعد عشر سنوات في الحكم 40% رغم تراجع النسبة عند مغادرتها داوننغ ستريت الى 26%.
71.2% حصة الاصوات التي فاز فيها بلير في دائرته الانتخابية في سيدجفيلد في الانتخابات العامة التي جرت في عامة 1997 ما اعطى العمال غالبية بلغت 25.143.
58.9%: حصة الاصوات التي كسبها بلير في دائرته الانتخابية في سيدجفيلد في الانتخابات العامة التي جرت في عام 2005 ما اعطى العمال غالبية بلغت 18.457.
37: عدد المرات التي زار فيها بلير ايرلندا الشمالية خلال رئاسته للحكومة. وقد اصطحب معه مرافقين سياسيين عديدين، بمن فيهم جون ميجر في عام 1998 والرئيس بيل كلينتون في عام 2000 وغوردون براون في 2002.
775.000 جنيه استرليني: القيمة المقدرة للامتيازات والعطلات الحرة التي تمتع بها توني بلير وعائلته وتشتمل هذه على ست زيارات للقصر الريفي الفرنسي الذي يمتلكه السير ديفيد كين والذي يعود للقرن الثاني عشر، وثلاث زيارات لفيلا غيرولامو ستروزي التي تضم خمسين غرفة في توسكانيا بايطاليا، واربع زيارات لعزبة السير كليف ريتشارد في البربادوس، وزيارة واحدة لمنزل روبن جيب بي.غي في ميامي. وقال ناطق بلسان داوننغ ستريت ان السيد بلير كان يتبرع بأموال احسان خيرية في كل عطلة، لكنه لم يشأ ان يكشف مبلغ التبرع او لاي جهة خيرية كان يقدم.
3.65 مليون جنيه استرليني: تكلفة منزل كونات سكوير الذي اشترته عائلة بلير قبل ثلاث سنوات. وفي وقت سابق هذه السنة اشترت العائلة ايضا اسطبلا مجاورا بقيمة 800,000 جنيه استرليني.
700: عدد المرات التي يتجاوز فيها استهلاك توني بلير للكربون استهلاك المواطن البريطاني العادي. وكعائلة فإن البليريين يخرجون سنويا 8.127 طن على الاقل من ثاني اكسيد لكربون مقارنة مع احد عشر طنا للمنزل البريطاني في المعدل.
التعليقات