أسامة أنور عكاشة


الشعر الغنائي سمي عن حق بديوان العرب لأنه كان سجلا راويا لاحوالهم وأيامهم وكان تقريبا فنهم الوحيدrlm;..rlm; لم يبدعوا فنا غيره ولا عرفوا من تصانيف الأدب سواهrlm;..rlm; بل لم يعرفوا منه إلا لونا واحد هو الغنائي أما الشعر الدرامي أو التمثيلي والشعر الملحمي فلم يخطر لهم علي بال ولم يترك لنا تاريخهم الإبداعي دليلا واحدا علي وجود أي محاولة ــ مجرد محاولة ـ لهم في هذا المضمارrlm;!rlm; ولا يمكن اعتبار هذا النقص عيبا يشين العرب أو يسيء إلي تاريخهم ففنون أي لغة تخضع في نشأتها وتطورها لظروف تختلف باختلاف المكان والبيئة والمسار الزمنيrlm;.rlm;

وفي المقابل نري شعراء العربية ـ علي اختلاف تقسيماتهم النقدية بين جاهليين ومخضرمين وأمويين وعباسيين ثم محدثين ومعاصرين ـ نراهم قد برعوا في هذا اللون من الشعر الغنائي وقدموا فيه نماذج وإبداعات رائعة تضيق في المقدمة من الشعر الغنائي في أي لغة أخريrlm;,rlm; ويكفي مثالا علي هذه الإبداعات تلك المطولات والمعلقات التي مازلنا نردد أبياتها في شغف ونتباري أينا أقدر علي حفظ واستظهار متونها وحواشيهاrlm;!!rlm; من فينا لم ينفخ صدره ويهز رأسه تيها وهو يردد ولو مطلع إحداها؟

من منا لم يملأ فمه بتلك الكلمات في مطلع لامية امرئ القيس الشهيرة ثم اطلقها علي لسانه هاتفاrlm;:rlm;

قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل
بسقط اللوي بين الدخول فحومل
أو بتلك الصيحة لعمرو بن كلثوم في معلقتهrlm;:rlm;

ألا هبي بصحنك فاصبحينا
ولا تبقي خمور الأندرينا
أو بغزلية المطلع في معلقة زهيرrlm;:rlm;

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها لم يفد مكبول
أو دالية طرفة بن العبدrlm;...rlm;

لخولة أطلال ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدrlm;...rlm;
ومن منا لم يهتز طربا وهو يردد مع الاعشيrlm;:rlm;

ودع هريرة ان الركب مرتحل
وهل تطيق فراقا أيها الرجل؟

سنلاحظ قطعا كلما استرجعنا تلك القصائد وغيرها بالعشرات ذلك النسق الذي التزم به الشعر العربي طوال عصوره القديمةrlm;..rlm; وحتي بعض المحدث فيهrlm;..rlm; والذي أسس تقليدا لم يخالفه شاعرrlm;..rlm; وهو بدء القصيدة دائما بالوقوف علي الاطلال والغزل أو التشبيب بالحبيبةrlm;..rlm; فالشاعر القديم لديه دائما ديار قديمة يحن إليهاrlm;..rlm; وهي ديار الأحبة في معظم الأحوالrlm;..rlm; وهناك باستمرار أطلال دارسة يحلو التوقف عندها

وتذكر أهلها والبكاء علي أعتاب ذكراهمrlm;!rlm; إذا فالندم علي فوات الأوان ونوستالجيا الحنين إلي ما كان طبع متأصل في الوجدان الشرقي عموما يصل أحيانا إلي درجة تقديس الأجداد عقيدة الشنتو التي يدين بها أغلب اليابانيين مثلاrlm;..rlm; لكن الوقوف علي الاطلال في الشعر العربي لم يكن له صلة بتقديس الاجداد بقدر ما كان افتخارا بأمجادهم إذا سلمنا بأن لهم امجادا حقيقية والتشدق بفروسيتهم وبطولاتهم في الحروب التي كانت هي شغلهم الشاغل وتكاد أن تكون مهنتهمrlm;...rlm;

فالرعي والتجارة والإغارة والاشتباك الثأري الدائم بين بكر وتغلب وعبس وذبيان وغيرهما من القبائل الضاربة أوتادها في البطاح والمتربصة ببعضها البعضrlm;..rlm; هذا الاقتتال الذي بلغ درجة الحرفة والمهنة هو الدافع الأول للفخريات التي استمرت مع عرب شبه الجزيزه وانتقلت إلي شعوب أخري مجاورة بعد الفتح الإسلاميrlm;..rlm; فجري شعراؤها مجري سابقتهم وامعنوا في تفخيم الذات والفخر بالأصل محافظين أيضا علي النسق المعتاد الوقوف علي الاطلال

وذكر الحبيب ثم الدخول علي الافتخار بالاجداد والانساب ثم أي موضوع آخرrlm;.rlm; وبقيت هذه التقاليد حتي جربها أمير الشعراء المحدثين أحمد شوقي في كثير من قصائده الشهيرة كأن يقول في مطلع نهج النهج علي بردية البوصيريrlm;:rlm;

ريم علي القاع بين البان والعلم
أجل سفك دمي في الأشهر الحرمrlm;..rlm;
أو يبدأ بائيته الاخري المعروفةrlm;:rlm;

سلوا قلبي غداة سلا وتابا
لعل علي الجمال له عتابا

لكن الأمر انتهي في الشعر بعد حركات التجديد التي كانت بشاراتها مع أحمد شوقي نفسه ومجايله حافظ إبراهيم وبعدهما شعراء المهجر وشعراء مدرسة أبوللو وما تلاهاrlm;..rlm; إلا أن انتهاء ذلك النسق النوستالجي لدي الشعر أذن بازدهاره لدي فريق آخر انغمس أفراده حتي آذانهم في ورطة الحنين إلي مارتبطوا به أيام شبابهم من عقيدة سياسية رآوا فيها مرجعا وحيدا يفسرون من خلاله كل ما جري حولهم لبلادهم والبلاد المجاورة ويبشرون بخطاب سياسي توحيدي يري أن الشعوب المتجاورة في هذه المنطقة والمتحدثة بلسان واحد

إنما هي أمة واحدة لم يقدر لها أن تتحد بسبب المؤامرات الاستعمارية التي توالت لمنع العرب من انشاء دولة واحدة قوية يمكن أن تتحول لقوة عظمي تمتلك القوي اللازمة لفرض احترامها ومهابتها علي العالمrlm;..rlm; ويؤمنون بأن تفرق العرب وتـشرذمهم وتطاحنهم يصب في صالح أعدائهم ـ الذين هم الإسرائيليين وانضم إليهم أخيرا الإيرانيون ـ وتكمن أزمتهم ـ أي الاشقاء العرب ـ في أن أمريكا ـ الراعي والحامي والشريك ـ تري رأيهم بالنسبة لإيران لكنها تخالفهم بشدة فيما يتصل بإسرائيلrlm;!!rlm;

وتتفق كل التحليلات السياسية لمثقفي مصر ومفكريها حول هذه الأزمة ثم تختلف بهم الدروب في طريق البحث عن حلrlm;..rlm; وقد لجأ السادة أصحاب المرجعية الفكرية العروبية إلي التشبث بمرجعيتهم وخطابهم القديم بقوة تقرب من العصبية وفي ظنهم أنهم يحرسون الثوابت ويحمونها من غارات التحولاتrlm;..rlm; مع أنهم يعلمون ـ وبعضهم من الاستاذة الاكاديميين وأعضاء مراكز الدراسات السياسية الرصينة ـ أن مسألة الثوابت هذه فيها نظرrlm;..rlm; ففي أي علم ـ وعلوم السياسة من ضمن لا توجد ثوابت مقدسة جامدةrlm;..rlm;

وأن الجدل وتحاور الاضداد تجعل ما نتوهمه ثابتا قابلا للتغير والتحول وقوانين العلم ليست ثابتةrlm;..rlm; الثابت فقط هو حقائق التاريخ لأنها حدثت بالفعلrlm;..rlm; والكتب المقدسة المنزلة من السماءrlm;!rlm; حتي في الأديانrlm;...rlm; غيرت أفكار مارتن لوثر وكالفن في تعاليم المسيحية الكاثوليكية للقديس بولسrlm;..rlm; وغير الانشقاق الإسلامي في الفتنة الكبري ثوابت كثيرة بين السنة والشيعةrlm;..rlm; المسألة الحقيقية في هذا الصدد أن الاساتذة المرجعيين قد تملكتهم النوستالجيا فاستمراوا الوقوف علي الاطلال والبكاء علي أيام الحب والاحلامrlm;..rlm; نوع من الدروشة الفكرية قد يعطي للنفس قدرا من التوازن لكنه لا يحل مشكلة ولا يتعامل مع واقعrlm;.rlm;