رجاء النقاش


هذه قصة واقعية من قصص التاريخ الأدبي العربيrlm;,rlm; وهي قصة صداقة حميمة مخلصة بين أديبين كبيرين من الأدباء العرب المعروفينrlm;,rlm; ويمكننا أن نقول إنها قصة نادرة المثالrlm;,rlm; لأن الطرفين في هذه القصة كانا مستعدين للتضحية بنفسيهما في سبيل هذه الصداقةrlm;,rlm; ونحن نعرف بالطبع أن هناك من هو مستعد للموت في سبيل حبه وهوي قلبهrlm;,rlm; أما من يكون مستعدا للتضحية بحياته في سبيل صداقتهrlm;,rlm; فهو نوع من الفرسان قليلا ما نجد له نموذجا حقيقيا في واقع الحياةrlm;.rlm;

وموضوع الصداقة في الشعر والأدب هو موضوع كريم ولطيف وعذب وفيه نوع من قوة العواطف الإنسانية الصافيةrlm;,rlm; وكان من أشهر شعراء العربية القدماء الذين تغنوا بالصداقة شاعرنا الكبير أبوتمامrlm;788rlm; ـrlm;846rlm; وقد قال بعض المؤرخين والنقاد عنه إنه شاعر الصداقةrlm;,rlm; في الوقت الذي يوصف فيه آخرون بأنهم شعراء الحبrlm;,rlm; ومن أشهر ما قاله أبوتمام في موضوع الصداقة بين الأدباءrlm;,rlm; هذان البيتان اللذان قالهما في وداع صديقه الشاعر علي بن الجهمrlm;804rlm; ـrlm;863rlm; حين اضطر ابن الجهم إلي السفر بعيدا عن صديقهrlm;..rlm; يقول أبوتمامrlm;:rlm;

إن يختلف ماء الوداد فماؤنا
عذب تفجر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا
أدب أقمناه مقام الوالد

وهذان البيتان هما من أجمل وأصدق ما قرأته في الصداقة الحميمة والقرابة الروحية بين اثنينrlm;,rlm; وفي هذين البيتين نقرأ كلمة يختلفrlm;,rlm; وهي في وصف الماءrlm;,rlm; ومعناها أن الماء يتغير طعمه ويفقد عذوبتهrlm;,rlm; وهناك كلمة تحدر ايضاrlm;,rlm; وكلمة تحدر هي من الانحدارrlm;,rlm; وتعني هنا سقوط المطر ونزوله من السحاب إلي الأرضrlm;.rlm;

ونعود إلي قصة الصداقة التاريخية بين أديبين كبيرين هما عبدالله بن المقفعrlm;724rlm; ـrlm;759rlm; وعبدالحميد الكاتب الذي تم قتله سنةrlm;750,rlm; وليس معروفا تاريخ ميلاده بدقةrlm;,rlm; وقصة الصداقة بين الأديبين الكبيرين لها روايات متعددةrlm;,rlm; خاصة فيما يتصل بقتل عبدالحميد الكاتبrlm;,rlm; لكنني أري أن أقربها إلي الصواب هي الرواية التي نتحدث عنها استنادا إلي مرجع موثوق هو كتاب تاريخ الأدب العربي للاستاذ أحمد حسن الزياتrlm;.rlm;

كان عبدالحميد الكاتب وزيرا أو في مقام الوزير عند مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويينrlm;,rlm; والمؤرخون يصفون هذا الخليفة بأنه كان من أعظم الخلفاءrlm;.rlm; وأنه كان من أكثرهم اجتهادا ويقظة وصبرا علي الشدائدrlm;,rlm; لكنه كان في الوقت نفسه من أسوأ الناس حظاrlm;,rlm; وكانت الظروف تميل عليه ولا تميل إليهrlm;,rlm; وقد حاول هذا الخليفة الكبير أن ينقذ الدولة الأموية من السقوط علي يد العباسيينrlm;,rlm; لكن الخليفة الأموي المجتهد لم يستطع النجاة من سوء حظهrlm;,rlm; وانفضاض الناس من حولهrlm;,rlm; واكتمال الاسباب لقيام دولة أخري علي أنقاض الدولة الأمويةrlm;,rlm; وهي الدولة العباسيةrlm;,rlm; وهكذا تجمعت بالتدريج ظروف قاهرة هيأت بوقوع المشهد التاريخي الكبيرrlm;,rlm; وهو سقوط الأمويينrlm;,rlm; وقيام الدولة العباسيةrlm;.rlm;

لم ينجح مروان بن محمد برغم قوة عزيمته وشدة اجتهاده في انقاذ الدولة الأمويةrlm;,rlm; لأن التاريخ يتحرك أحيانا بصورة أقوي من قدرة الاشخاص مهما كانوا عظماءrlm;,rlm; ولقد كان مروان بن محمد من عظماء التاريخrlm;,rlm; وكان جادا ومثابرا وصبورا حتي لقد أطلق عليه بعض المؤرخين اسما طريفا هو مروان الحمار وأصبح مروان مشهورا بهذا الاسمrlm;,rlm; ولم يكن تشبيه هذا الخليفة بالحمار احتقارا له وتقليلا من شأنهrlm;,rlm; بل كان الأصل في هذا التشبيه هو أن مروان كان قادرا علي التحمل وكان يعمل كثيرا ولا يشكوrlm;,rlm; وكان صبورا علي الشدائد يحاول أن يعالجها بإرادة حديديةrlm;,rlm; ولم يكن مروان غبيا بل كان من أذكي الاذكياءrlm;,rlm; لكن الظروف كانت أقوي منه ومن أي رجل آخر في مكانهrlm;.rlm;

كان مروان قد اتخذ أديبا مشهورا شهرة واسعة في تاريخ الأدب العربي هو عبدالحميد الكاتب في منصب الكاتب وهو منصب يساوي منصب الوزير في مصطلحاتنا الحديثةrlm;,rlm; ولاتزال بعض الدول العربية تستخدم كلمة كاتب الدولة بدلا من كلمة الوزيرrlm;,rlm; والكلمتان بمعني واحدrlm;.rlm; وعندما اقتربت جيوش العباسيين من الشام قال الخليفة الذي تقترب الهزيمة النهائية منه بخطي سريعة لوزيره عبدالحميد الكاتب اتركني واذهب للبحث عن نجاتكrlm;,rlm; ونتابع هذه القصة كما يرويها لنا الأديب العربي الكبير أحمد حسن الزيات في كتابه تاريخ الأدب العربي حيث يقولrlm;:rlm;

قال مروان لعبد الحميدrlm;:rlm; قد احتجت لأن تتحول إلي عدوي وتظهر الغدر بيrlm;,rlm; فإن اعجابهم بادبكrlm;,rlm; وحاجتهم إلي كتابتكrlm;,rlm; تدفعهم إلي حسن الظن بكrlm;,rlm; فإن استطعت أن تنفعني في حياتي فسوف تفعلrlm;,rlm; وإلا لم تعجز عن حفظ حرمتي بعد مماتيrlm;,rlm; فقال عبدالحميد الكاتب للخليفةrlm;:rlm; إن الذي أشرت به علي أنفع الأمرين لك واقبحهما بيrlm;,rlm; وليس عندي إلا الصبرrlm;,rlm; حتي يفتح الله عليكrlm;,rlm; أو أموت قتيلا معكrlm;,rlm; ثم أنشد عبدالحميدrlm;:rlm;

أيسر وفاء تم اضمر غدرة
فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره

وبقي عبدالحميد الكاتب مع الخليفة مروان إلي أن تم قتل مروان في مصرrlm;,rlm; فلجأ عبدالحميد إلي صديقه ابن المقفع وكان يقيم في البحرين في ذلك الوقتrlm;,rlm; ولكن العباسيين طاردوه وفاجأوه في بيت ابن المقفعrlm;,rlm; فقال الذين دخلوا عليهrlm;:rlm; أيكما عبدالحميد؟ فقال كل منهماrlm;:rlm; أنا عبدالحميد مخافة علي صاحبهrlm;,rlm; وأوشك الجند أن يقتلوا ابن المقفعrlm;,rlm; لولا أن صاح بهم عبدالحميد قائلاrlm;:rlm; ترفقوا بنا فإن لكل منا علاماتrlm;,rlm; فوكلوا بنا بعضكم للحراسة وليذهب البعض بالعلامات التي لديه للشخص المطلوب ويحدد من هوrlm;.rlm; وعلي ضوء تلك العلامات قبضوا علي عبدالحميد وقتلوه في سنةrlm;132rlm; هجرية الموافق سنةrlm;750rlm; ميلاديةrlm;.rlm;

تلك هي قصة عبدالحميد الكاتب الذي أراد صديقه عبدالحميد بن المقفع أن يفتديه بحياته فقالrlm;:rlm; أقتلوني بدلا منهrlm;.rlm;

وقد يكون من الاستطراد هنا أن أقول إن هذه القصة تصلح مادة إنسانية رائعة تتوافر لها كل العناصر الاساسية في مسرحية عربية من الدرجة الأولي فهل يدرك كتاب المسرح والشعر والرواية ايضاrlm;,rlm; هذه الحقيقة ويمدون أيديهم إلي هذا الكنز من تراثنا ليبعثوا فيه بالحياة من جديد؟

لكن هذه القصة بوضعها الحاليrlm;,rlm; وقبل أن تمتد يد فنان مسرحي أو شاعر أو روائي إليهاrlm;,rlm; فإنها تقول لنا أشياء كثيرةrlm;,rlm; أهمها أن الأديب الحقيقي لصاحبه هو كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا أو هكذا ينبغي أن يكون الأمرrlm;.rlm;

ومن أهم المعاني في هذه القصة أن العصر كان عصر فتنة هائلة وانقلاب سياسي رهيبrlm;,rlm; حيث كان هناك دولة جديدة تظهرrlm;,rlm; وتختفي من الوجود دولة أخريrlm;,rlm; كانت من أقوي دول العالم هي الدولة الأمويةrlm;,rlm; وفي مثل هذه الفترات من التاريخ يصاب الناس بالخوف الشديدrlm;,rlm; ويلتزمون الحذرrlm;,rlm; وينطوون علي أنفسهمrlm;,rlm; ويبتعدون عن الآخرينrlm;,rlm; التماسا للنجاة من الفتنة الكبيرة القائمة والانقلاب الكبير الهائل في محيط الحياةrlm;.rlm;

تلك هي الظروف التي تغري بالانانية وعدم التفكير في مد يد العون للآخرينrlm;,rlm; لكن عبدالله بن القفع خرج علي القاعدةrlm;,rlm; ورفض أن يفقد إنسانيته أو يتنكر لفضيلة الوفاءrlm;,rlm; وقام باستقبال صديقه عبدالحميد الكاتب في بيتهrlm;,rlm; ولولا أن أحدا قد دل جنود العباسيين علي مكان عبدالحميد الكاتب فربما كان عبدالحميد قد نجا من القتلrlm;,rlm; لكن أوقات الفتنة دائما تكون مليئة بالرجال الصغار الذين يعرضون خدماتهم علي رجال السلطانrlm;,rlm; ولا يترددون في العمل كجواسيس ومخبرين يطاردون الناسrlm;,rlm; ويبحثون عن أي معلومات يمكن بيعها والانتفاع بثمنها الحرامrlm;,rlm; وهؤلاء الصغار هم بالقطع الذين دلوا جنود العباسيين علي المكان الذي يقيم فيه عبدالحميد الكاتبrlm;,rlm; وهو بيت صديقه ابن المقفعrlm;.rlm;

كان موقف ابن المقفع موقف رجولة وشجاعة ووفاء خالصrlm;,rlm; فقد كان بحمايته لصديقه يعرف أنه يتعرض للقتلrlm;,rlm; لكنه لم يتردد مما يعني أن فضيلة الوفاء عنده كانت أعلي بكثير من حبه لحياتهrlm;.rlm;

أما عبدالحميد الكاتب فقد كان هو الآخر مثالا للصبر علي المحنة والرفض التام للوسائل الملتوية التي كان يمكن أن تنجيه من القتلrlm;,rlm; فقد اقترح عليه الخليفة مروان ان يعلن الغدر به وأن يتقرب إلي المنتصرين الذين يعرفون قدرهrlm;,rlm; فإن سمعوا أنه يسب الأمويين ويمدح العباسيين فإن العباسيين علي الأغلب سوف يبقون علي حياته للاستفادة من مواهبه وكتاباتهrlm;,rlm; لكن عبدالحميد أبي أن يتصرف بهذا التقلب السياسي الرخيص الذي ينتقل فيه من الحزب الأموي إلي الحزب العباسي في غمضة عينrlm;,rlm; وهذا التقلب السياسي هو من أسوأ الأمور التي تحط من قدر صاحبهاrlm;,rlm; وتطعن في اخلاقه وشخصيتهrlm;,rlm; وتنزل به من مقام الكبار إلي مقام الصغارrlm;.rlm;

ولعل من عبث الأقدار أن يموت ابن المقفع مقتولا علي يد الخليفة العباسي الثاني أبوجعفر المنصورrlm;,rlm; وكان ذلك سنةrlm;759rlm; ميلادية أي بعد مقتل عبدالحميد الكاتب بتسع سنوات فقطrlm;,rlm; وكان عمر ابن المقفع حين مقتله بالبصرة خمسة وثلاثين عاماrlm;.rlm;

والجريمتان هما من أسوأ الجرائمrlm;,rlm; لأنهما جريمتا قتل بطريقة عبثية عشوائية لعبقريتين كبيرتين من عباقرة الأدب العربيrlm;.rlm; والحق أن القتلي في تاريخ الثقافة العربية من الشعراء والأدباء والمفكرين يملأون قائمة طويلة تثير سؤالا هوrlm;:rlm; لماذا كل هذه الكراهية للأدب والأدباء والشعر والشعراءrlm;,rlm; والفكر والمفكرين؟