أربعون عاماً على الهزيمة..



أحمد ماهر

أربعون عاماً مضت على هزيمة 5 يونيو 1967، وما زالت الجراح مؤلمة وما زال الجدل دائراً، بعضه يتم في إطار البحث عن الحقيقة، وبعضه الآخر جزء من تصفية حسابات تتجاوز الكارثة الى محاولة الإدانة الشاملة لعهد دون التناول الموضوعي لحقائق تاريخ مرحلة مهمة من مراحل التاريخ المصري والعربي. وأرى من الظلم أن نختصر التاريخ في لحظة واحدة بأخطائها وكوارثها من دون أن نضعها في إطار أوسع. وعندما أقول ذلك فإني لا أحاول الهروب من مواجهة حقيقة ما حدث نتيجة أخطاء وتراكمات، ولا أحاول إعفاء أحد وبالذات جمال عبد الناصر من تحمل تبعة ما حدث، وهو بنفسه قد أقر بمسؤوليته، ولكني أرفض ـ كما رفضت شعوب أخرى والشعب المصري ذاته في مراحل أخرى ـ أن يتجمد النظر عند يوم معين من دون النظر الى كل ما أدى إليه وترتب عليه في نظرة أوسع وأشمل لتاريخ هو بالضرورة حلقات متواصلة تحمل معها ما تحمل من آمال بدا لوهلة، أنها تحطمت وآلام ما زالت بالضرورة تنبعث من جراح غائرة.

وتاريخ الشعوب ـ خاصة اذا كانت شعوب حية تعيش ظروفاً صعبة وتتعرض لأخطاء ذاتية وأطماع خارجية هو سلسلة من الانتصارات والانتكاسات والمعيار الحقيقي للحكم هو مدى القدرة على تجاوز غرور الانتصار ويأس الانتكاس. لقد تلقى محمد علي ضربات لكنه يبقى مؤسس مصر الحديثة، وانهزم نابليون، لكنه يبقى باني حضارة فرنسية متجددة بنت دولة جديدة بنظمها التي يفتخر بها الفرنسيون التي قلدها العالم عنهم. ودول كثيرة هزمت ـ أيا كانت الظروف والأسباب والمسؤوليات، المانيا هزمت ودمرت، واليابان هزمت ودمرت بالسلاح النووي، وروسيا تعرضت لغزوات، ولكن تلك الدول لم تتوقف وتتجمد عند اللحظات الحزينة، ولكنها اتخذتها حافزاً لكي تخرج من أحزانها وآلامها وخسائرها ولا تخرج من سياق تاريخها الممتد. أما نحن فنجتر مآسينا الى درجة أننا ـ أو بعضنا ـ نبقى أسرى لها ولظلامها.

لست أريد أن أبدو وكأن هدفي الدفاع عن عبد الناصر، أو عن أخطائه فهو بالنسبة لي ليس معصوماً، بل هو إنسان قاد ثورة غيرت وجه مصر وبدأت فيها نهضة ووقعت في أخطاء لعل أهمها أنها تصورت أن رضاء الجماهير يغني عن وضع نظام ديموقراطي حقيقي يعزز هذا الرضاء ويحفظه في اطار دستوري قادر على التصحيح المستمر والتصويب والحماية من الجنوح والمزالق. ولكن هذا لا يعني بالقطع ـ وفقاً لمثل غربي معروف ـ أن نرمي المولود مع الماء الذي غسلناه فيه، وأن ننكر كل ما حققته الثورة لأنها وقعت في أخطاء بعضها فادح، وبعضها أوقعت نفسها فيه، والبعض الآخر ترتب عن مؤامرات استهدفت في كل العصور عدم السماح لمصر بأن تضطلع بدورها الاقليمي الطبيعي الذي يحفظ التوازنات ويحمي من الأطماع.

وبالمناسبة فإني اختلف مع تردد الاستاذ هيكل، كلما اقتربت من لسانه كلمة laquo;ثورةraquo; في ان يستخدمها مفضلاً ان يشير الى laquo;ما حدث في 23 يوليوraquo; مع أن ما حدث في ذلك اليوم هو بداية حركة ثورية سعت بإنجازاتها وأخطائها بل احياناً خطاياها ومراجعاتها، وانتصاراتها وانتكاساتها بل هزائمها ـ لتغيير الحياة في مصر، وفي العالم العربي بل في أفريقيا والعالم الثالث كله، ولعلها امتدت بما هو اكثر من قدراتها، ، ولعلها اخطأت في الحساب مرات، ولكن من الظلم لمصر ألا يذكرنا بعضنا الا بـlaquo;البقعraquo; والنقاط السوداء ـ وهي موجودة بالقطع ـ في ثوب ليس دائما أبيضا ناصعاً لكنه رمادي وأبيض أحياناً أخرى. ومن غير العلمي ان نتوقف عند لحظة الهزيمة، بل نحلل ما أدى إليها، وما كان قد تم انجازه قبلها، وما أوصل إليها من مسؤوليات، ثم ننظر الى ما تلاها من إدراك بدا خجولاً متردداً بضرورة الإصلاح الداخلي في تطور ما زال بادياً حتى الآن على طريق بناء ديموقراطية حقيقية، ومن إعادة بناء القوة الوطنية ـ بما فيها القوة المسلحة والقوة السياسية والدبلوماسية ـ لاسترداد الأرض المحتلة، في نصر مدو ٍغير الموازين، وأكد التصميم والعزم وعزز الافتخار، ولتقديم المساعدة الحقيقية للشعب الفلسطيني، واعتقد أن علينا أن ننظر إلى التاريخ كسلسلة لا تنقطع تنبض بالحياة وبالتطوير والتصحيح من دون ان نتهرب من مسؤوليات، ومن دون أن نكتفي بتحمل الأوزار وجلد الذات إضافة الى جلد الآخرين لنا.

إن مصر ـ كوطن مصري وكجزء من الأمة العربية التي تتشكل من دول تتجمع أو يجب أن تتجمع حول المصالح المشتركة في البناء ومواجهة الأخطار والأطماع المشتركة ـ عليها دور وواجب تعرف كيف تضطلع به ليس لأنها القادرة الوحيدة، بل لأنها الأقدر في إطار جهد جماعي لإنقاذنا جميعاً من طوفان تراكمت سحبه السوداء فيما نراه اليوم في فلسطين والعراق ولبنان والسودان والصومال في سلسلة شريرة لا يمكن ان تكون صدفة حتى اذا كانت أخطاؤنا هي التي تساعد أحياناً على تضييق الخناق علينا.

إن ما يجري في فلسطين من استمرار الصدام بين فتح وحماس في صراع لا يمكن ان نقبل فيه أية محاولة للتبرير او التفسير هو جريمة بكل المقاييس لا يمكن إلا إدانتها، ومع التقدير للجهود التي تبذلها دول عربية كثيرة ـ وعلى رأسها مصر ـ في المجالات الأمنية والسياسية، فإن المسؤولية الأولى تبقى مسؤولية الفلسطينيين أنفسهم الذين يبدو أحياناً أنهم يتصارعون على حصاد الهشيم، وأن بعضهم يفضل أن ينهار الأمل على الجميع بدلاً من ان يقبل حقيقة أن اسرائيل هي المستفيد الوحيد من هذا الانقسام، تستمر في سياسة القتل والعدوان والاجتياح وخنق كل خطوة حقيقية نحو سلام عادل وشريف خاصة، وأنها تحظى بتأييد أمريكي لا يعرف هوادة ويجر وراءه دولاً وقوى كان المتوقع منها أن تكون أكثر إنصافاً وهي التي كانت تتباهى بأنها أكثر ادراكاً لحقائق المنطقة وأكثر قدرة على الموضوعية والإنصاف، فإذا بها تنساق الى مواقف لا تتفق مع دورها المفترض.

وفي لبنان معارك وانقسامات ليس من شأنها ان تقود حقاً الى كشف حقيقة المؤامرات التي تستهدف الشعب كله، بل تعرض الوطن كله الى أخطار لا يمكن تجنبها إلا بالتآزر والتعاون الذي يمكن في إطاره وحده تحقيق الاستقرار ووقف سلسلة المآسي التي توالت منذ اغتيال الرئيس الحريري، وصولاً الى معاقبة المجرمين اياً كانوا مع وضع الاطار المناسب لإقامة علاقات سوية بين الجيران. وبكل الود والمحبة والتقدير لرغبة غالبية اللبنانيين في استجلاء الحقيقة، فإني لا أعتقد ان المحكمة ذات الطابع الدولي ـ خاصة بأسلوب إقرارها الذي يثير مشاكل دستورية مهمة بالإضافة إلى السابقة التي يشكلها تناول مجلس الأمن لموضوعات قد لا تكون في نطاق الالتزام الدقيق بقواعد الميثاق وقد تفتح الباب مستقبلاً لتدخلات قد يعاني منها الجميع، ولذلك اعتقد أنه من الضروري ان يتجاوز اللبنانيون آلامهم وانقساماتهم ويجدوا بمساعدة الاخوة والأشقاء وسيلة ليتحدوا حول ما فيه مصلحة ذلك البلد العزيز علينا جميعاً، في إطار يصد هجمات شريرة اياً كان مصدرها.

اما عن العراق، فإن الورطة الامريكية تتفاقم، وكل يوم يكشف حقائق جديدة ويتمخض عن مآس متجددة، ولست أظن ان عناد الادارة الامريكية وتعاميها الظاهري عما يحدث، الا محاولة يائسة لإخفاء مآزقها. وإذا كانت واشنطن تريد أن تجد مساعدة في الخروج من الحفرة التي ألقت بنفسها فيها تحت تأثير قوى التعصب اليميني الأعمى المتحالف مع المؤامرات الصهيونية، فإن عليها أن تترك المجال لغيرها لكي يستمروا في جهود محاولة اعادة الوحدة الوطنية على أسس سليمة، وعليها أن تساعد في خلق الأجواء الاقليمية التي تساهم في تحقيق الاستقرار بالتوقف عن مساندة سياسات ـ وخاصة سياسات اسرائيل ـ من شأنها ان تزيد الكراهية لواشنطن ورغبة البعض في الاستمتاع بورطتها ربما على أساس مبدأ laquo;عليّ وعلى أعدائي يا ربraquo;، وهو مبدأ قد يقود إليه اليأس من أن تدرك الولايات المتحدة الحقائق وتتصرف على أساسها.