علي العميم

هذا عنوان كتيب ذائع قبل أكثر من ثلاثين سنة لدى المهتمين بالكتب التي ألّفها إخوان وشيوعيون وأسماء تنتمي إلى تيارات سياسية أخرى عن المعتقلات الناصرية. صدرت طبعته الأولى في بيروت من دون ذكر لأي بيانات عن اسم الناشر وتاريخ النشر. ويمكن أن نحدد تاريخ نشره بأنه كان في منتصف السبعينات الميلادية. ثم تكررت طباعته بعد هذا التاريخ في القاهرة في دار نشر تعبر عن فكر الإخوان المسلمين، هي دار الأنصار مع زيادة في العنوان، فصار اسمه بعد الزيادة (عشت هول المذبحة، أقسمت أن أروي ).

ذُكر في بيانات الطبعة الأولى البيروتية ، أن مؤلفه كاتب لبناني ، يدعى روكس معكرون . وفي ديباجة الكتيب ذكر المؤلف أنه مسيحي عاش بين الإخوان المسلمين في سجن ليمان طرة . يروي المؤلف في كتيبه أهوال المذبحة التي تعرض لها الإخوان المسلمون في سجن ليمان طرة سنة 1957م ، والتي ذهب ضحيتها واحد وعشرون قتيلاً ، وواحد وعشرون جريحاً.

يوقعك الكتاب عند قراءته في شيء من التشويش بسبب أن مؤلفه يتحدث عن نفسه، بوصفه شاهد العيان الوحيد الذي سجل أهوال المذبحة. وهذا يخالف ما عليه واقع الحال في الآونة التي صدر فيها كتيبه. فلقد صدرت كتيبات وكتب ومقالات لبعض أعضاء جماعة الإخوان المسلمين ، تحدثوا فيها بوصفهم شهود عيان عن المذبحة بإسهاب. وتحدثوا أيضاً عن صور أخرى من المعاناة ، تكبدوها في معتقلات عبد الناصر. فكيف يستقيم ndash; والحال على ما وصفنا ndash; أنه شاهد العيان الوحيد على المذبحة ؟ هذا إضافة إلى تشويش آخر يوقعك الكتيب به،فالكتاب صادر بعد وفاة عبد الناصر بخمس أو ست سنوات ، لكن مؤلفه يتحدث عنه على أنه حي يرزق!

حل إشكال أو تناقض كهذا أمر بسيط وهين: الكتيب صادر في منتصف السبعينات الميلادية لكن ناشره ومؤلفه كانا يريدان أن يوحيا للقارئ ، بأنه صادر قبل ذلك بسنوات طويلة. وعلى وجه التحديد صادر في الأشهر الأولى من 1960م، والمذبحة بعد حية ودماؤها مازالت تنزف. ولهذا السبب أغفلا ذكر تاريخ نشره ، فهما كانا يريدان أن يوهما القارئ ، بأن الكتيب صادر والإخوان المسلمون مازالوا يقبعون في سجون عبد الناصر. وعبد الناصر نفسه في أوج زعامته.

نذهب إلى هذا استناداً إلى القرائن التالية:

- يسمى المؤلف مصراً الجمهورية العربية المتحدة ، وهو اسمها الرسمي الذي تحولت إليه ابتداء من سنة 1958م ، وألغي سنة 1971م .
- يحذر المؤلف الشرق العربي عامة ولبنان خاصة من دعوة عارمة قامت منذ سنوات ( يعلمنا بأنها قريبة ) تدعو إلى زعامة عبد الناصر . وبداية هذه الدعوى واشتدادها ndash; كما هو معلوم ndash; كان في نهاية الخمسينات واستمر مع بداية الستينات الميلادية ، وذلك مع صعود زعامة عبد الناصر سنة 1956م ، بتأميمه لقناة السويس ، وما استتبع هذا القرار من شن بريطانيا وفرنسا وإسرائيل عدوانها .
- أشار إلى دمار حل بلبنان وإلى قتلى ، وذلك ثمناً دفعه اللبنانيون من جراء انسياقهم خلف الدعوة إلى زعامة عبد الناصر وهوبهذه الإشارة يومئ إلى نتائج ثورة 1958م.

- تنويهه في فقرة أنه عاش بين الإخوان المسلمين أيام وليال ، أخاً لهم في سجن ليمان طرة ، وتنويهه في فقرة أخرى بأنه خرج من السجن ، ومن سجون الجمهورية العربية المتحدة وحدودها جميعاً ، ليتصل بالعالم الحر ، تفيدان بأنه لبث في السجن فترة ليست بالطويلة. ربما تكون سنة أو سنتين أو بالكثير ثلاث سنوات ، وأنه كتب كتيبه فور خروجه من السجن .

تكتنف الكتيب جوانب غامضة أولها أن الناشر مجهول ، وأن المؤلف غير معروف . وثانيها أنه يتحدث وهو اللبناني والمسيحي وفي ذروة صدام جماعة الإخوان المسلمين بعبد الناصر ، عن صالح أبو رقيق _- أحد قيادات جماعة الإخوان المسلمين البارزين وأحد المتهمين بمحاولة اغتيال عبد الناصر ndash; بوصفه صديقاً قديماً !

ثالثها : أنه لم يخبرنا عن نفسه أي شيء، من هو؟ ما صفته ؟ ما ذا يصنع بمصر؟ أو ما الذي أتى به إليها في عهد عبد الناصر ؟ فما أخبرنا به لا يتعدى أنه لبناني ومسيحي ، وشهد المذبحة معه في سجن ليمان طره صديق له مسيحي، يدعى جورج يونس، ولم يخبرنا ndash; وكان هذا مهماً ndash; بالتهمة التي من أجلها دخل السجن ، هو وصديقه المدعو جورج يونس. فلا نعرف هل دخل السجن في قضية رأي أم دخله لارتكابه جنحة جنائية ؟

ونتيجة للجانب الأخير من الغموض ، مال نفر من الإسلاميين المخضرمين والشداة ، منذ ما يزيد على العقود الثلاثة إلى أن المؤلف دخل السجن بتهمة جنائية لتستره أو إغفاله سبب سجنه. ومجدداً رأينا شيخاً متأفغناً في مجلس إفتاء في منتديات ( أدما ) الإسلامي ، يروي قصة المؤلف مع الإخوان المسلمين ، باعتبارها دليلاً من جملة أدلة يسوقها ، تجيز استعانة ( الجماعة الإسلامية الناجية والمنصورة ) بالنصارى والمجوس والهندوس بشروط معينة في أعمال الجهاد الإسلامي. فقد رجم الشيخ المتأفغن - وهو يروي تلك القصة - بأن صاحبها مهرب نصراني ، مسكته الدولة أيام عبد الناصر !!

وذهب إلى مثل هذا الرجم ، وإن كان على نحو عمومي ، الكاتب الإسلامي المتحمس محمد عباس في مقال خصه لسب عبد الناصر وشتم السعودية ، ففي مقاله هذا ، غلّب الظن ، بأن المؤلف كان سجيناً جنائياً ، وقطع بأنه ليس بكاتب أو مفكر . ذهب إلى مثل هذا قبل سنوات قليلة ، وهو يبشر القراء بهدية ثمينة ، عثر عليها بعد جهد جهيد ، وهي النص الكامل لكتيب ( أقسمت أن أروي ). وناشد قراءه أن ينشروه على أوسع نطاق ، لكون كل طبعاته قد نفدت من كل الأسواق . ولقد استجابوا لمناشدته ، فنشروه على الإنترنت في أكثر من موقع .
وإن كنا سنجد لكاتبنا الإسلامي المتحمس عذراً في نفي صفة الكاتب عن المؤلف ، لاعتماده على طبعة دار الأنصار القاهرية ، إذ أنها استغنت عن صفحة تضمنتها طبعة بيروت للكتيب ، تفيد بأن المؤلف كاتب لبناني ، فإنه يشق علينا تلمس العذر له عند العودة إلى متن الكتيب . ففي ديباجته تلميح من المؤلف إلى أنه كاتب محترف إلى حد الاعتداد الزائد فهو يطري نفسه قائلاً : أنه وهو يقدم قصة المذبحة ، لن يستغل صناعة الكتابة أو براعة القلم في تجسيم الحقائق !

وفي موضع آخر ، أفادنا بأنه كتب كتيبه ، وهو جالس في زنزانته الكئيبة ، ولا يفعل هذا في تلك الظروف القاسية والعصيبة سوى كاتب أو ممتهن للصحافة ، أو أديب كما وهم بعض الذين عرّفوا بالمؤلف. (نلاحظ هنا ثمة تضارب بين الإفادتين ، ففي الأولى يوحي لنا المؤلف ، بأنه كتب كتيبه أو ndash; كما يعبر فصله ndash; بعد خروجه من السجن وعودته إلى لبنان . وفي الأخرى يوحي لنا بأنه شرع في كتابة كتيبه، وهو نزيل السجن ).

ومن أعجب ما يرويه المؤلف ، وهو ضرب من المحالات السامجة والتخريف الرخيص : أمر الملازم أول عبد العال سلومة لطالب في كلية الحقوق ، يدعى محي الدين عطية ، أن يلوط بأخيه !!!

وخشية من التباس وخلط كالذي حصل مع المؤلف ، وهو تحويله من كاتب أو صحافي إلى صاحب تهمة مخلة بالشرف ، من المهم الإيضاح أن محي الدين عطية وأخيه هذان ، هما ليسا الأخوين عطية ، جمال الدين ومحيي الدين ، الباحثين الإسلاميين المرموقين . ولا أستبعد أن يحصل التباس وخلط في الأسماء ، لأنهما كانا من شبيبة جماعة الإخوان المسلمين في ذلك الوقت ، وللتشابه في الاسم ، وأخيراً لأن أحدهما جزء من مؤهلاته العلمية ، حصوله على ليسانس حقوق . انني أقطع بأنهما ليسا المعنيين بتلك الواقعة المزعومة - رغم أخوانيتهما ndash; لأنه لم يسبق لهما أن دخلا السجن في عهد عبد الناصر.

إن الكتيب بقليل من التمعن والتدبر فيه ، وبعد إزالة كليتشيهتين لبنانيتين من مثل خلق أبناء لبنان من جوهر الحرية، وأن لبنان حصن الحريات والحقوق ، وكذلك بعد محو جمل مسيحية، كتمتمته بالصلاة أن يرفع عنهم الكأس، والعذاب من أجل كلمة الله، والتضحية والفداء، والمعزوفة الجنائزية، أقول إن فعلنا ذلك سنفاجأ بأن مؤلفه ليس بلبناني مسيحي، وإنما هو أحد كتبة الإخوان المسلمين. وذلك من خلال روحه وطريقة عرضه وأسلوبه في الحديث عن الإخوان المسلمين. وهي الروح والطريقة والأسلوب الذي يُقدم فيه الإخوان المسلمون وكأنهم أطهار بررة وقديسون منزهون وملائكة نورانيون، يحيط بهم بحر من الدنس والفجور والبغي. فالكتيب ملفق مزور، لسبب آخر ساطع ، وهو أنه لا يوجد كاتب أو صحافي لبناني يحمل اسم روكس معكرون !

ويأتي هنا سؤال: لماذا اختار الإخوان المسلمون لبنان بلداً ، لطباعة الكتيب ؟ ولماذا اختاروا لمؤلفه اسماً لبنانياً مسيحياً ؟
الجواب هو أن لبنان منذ محنة الإخوان المسلمين في عهد عبد الناصر إلى بدايات الحرب الأهلية ، كان مركز ثقل الإخوان المسلمين الإعلامي ، نشاطاً وكتباً ومنشورات. واختيارهم لذلك الاسم اللبناني المسيحي، كان لتحقيق غرضين: الأول دعائي والآخر احترازي.

الغرض الدعائي ،هو أن جعل المؤلف من ملة مخالفة لملة الإخوان المسلمين الدينية ، سيصور ما جاء في الكتيب بأنه شهادة منصفة ِ أدلى بها رجل غير مسلم لا تحرج شهاداته شبهة التحيز السياسي الإخواني، ولا يخل بها الهوى الديني الإسلامي. ويتفرع عن هذا الغرض غرض دعائي آخر ، وهو أن الكتيب في المحل الأول ، موجه للمسلمين في لبنان عامة ، وللشارع السني فيه خاصة والذي كان مستولياً على سواده الأعظم منذ منتصف الخمسينيات إلى أواخر السبعينيات الميلادية الغرام بعبد الناصر والوله بشعاراته ، وكان نصيب الإخوان المسلمين من الجماهير في هذا الشارع بسب ناصريته ، محدودة ومتدنية.

أما الغرض الاحترازي ، فهو أن اختيار اسم لبناني مسيحي يضمن إلى حد كبير عدم انكشاف التزوير أو يضمن إغماض العين عنه ، ذلك لأن أكثرية المسيحيين في لبنان في عمقهم وفي نجواهم ، لم يكونوا مؤيدين لعبد الناصر . فقد توجسوا خيفة منه منذ صعود زعامته. فبرغم علمانية مشروعه وبرغم اشتراكية هذا المشروع اللاحقة إلا أنهم كانوا يرون فيه مشروعاً إسلامياً سياسياً وإن تدثر بالعروبة والعلمانية. وكانوا يرون أن هذا المشروع سيجعل منهم الطرف الأضعف في معادلة الطوائف التي يقوم عليها النظام السياسي في لبنان. وقد تيقنوا من صدق مخاوفهم عندما هبت زعامات السنة والشيعة والدروز في ظل أحداث ثورة 1958م ، لمبايعة عبد الناصر وتسليمه زمام لبنان ، وهي المخاوف التي لم تهدأ إلا عند الإنزال العسكري الأميركي على الشواطئ اللبنانية.

إن ما لم نطرحه على أنفسنا في السعودية وفي غيرها من البلدان العربية التي غشيتها في عقدي السبعينيات والثمانيات الميلادية الحمّى الإخوانية ، أسئلة من مثل، لماذا لم تنشر مادة الكتيب وهي قصيرة جداً ، في الصحف والمجلات اللبنانية مادام أن كاتبه لبناني ؟ فبعض الصحف اللبنانية المرموقة ، وكذلك المجلات، كانت نظراً لإختلافها مع سياسة عبد الناصر، تفسح مجالاً لنشر وجهة النظر الأخوانية ووجهة النظر المتعاطفة مع الإخوان المسلمين في حياة عبد الناصر وبعد مماته.

ولماذا لم نر الأخوان المسلمين الذين احتفوا بالكتيب وقاموا على ترويجه، يفردون لصاحبه مقابلات في مجلاتهم الرائجة في عقدي السبعينات والثمانيات الميلادية ؟ ولماذا صمت الصحافيون والمثقفون اللبنانيون عن قضية سجنه وخاصة ممن ينتمي منهم إلى التيار اليميني الإنعزالي، وتيارات آخرى معادية لعبدالناصر؟ ولا أدري الآن، ما هو موقف عائلة معكرون (وهي عائلة زحلاوية ، تنتمي إلى الروم الكاثوليك ) من انتحال اسمها في كتيب مزور. والذي بسبب غموض فيه، عُرّض اسمها للإساءة والتشويه. إن اسم المؤلف الحقيقي، يعرفه كبار شخصيات الإخوان المسلمين، وكذلك يعرفه فرع الإخوان المسلمين في لبنان ، ويعرفه الإخوان عطية ، جمال الدين ومحيي الدين ، لأنهما إبان صدور الكتاب كانا من المترددين على لبنان!