د. عصام نعمان


اعتراف الدول، بعضها ببعضها الآخر، لا يعني تبادل السفراء وحسب بل يعني، بالدرجة الأولى، تبادل الاحترام... احترام الاستقلال والسيادة والمصالح والخصوصية الوطنية والثقافية.

بهذا المعنى، أمريكا لا تعترف بالدول العربية، او بمعظمها، لأنها لا تحترم استقلالها ولا سيادتها ولا خصوصيتها الوطنية والثقافية، ولا تحترم على الأخص مصالحها.

صحيح أنها تتبادل معها السفراء، لكن هذا الأمر لا يعدو كونه تقليداً بروتوكوليا أو مجاملة سياسية لا مضمون لها ولا فعالية. فسفراؤها مجرد واسطة للتدخل شبه اليومي في شؤونها الداخلية. وقواعدها العسكرية دليل حي على انتهاكها، ولو غير المباشر، لسيادتها. وسياستها الخارجية، لاسيما ما يتعلّق منها بالعقوبات الاقتصادية والعزل المصرفي والمساعدات المالية والفنية المشروطة، أداة فاعلة للتعدي على مصالح الدول الأخرى أو الحؤول دون نموها وازدهارها. ثم إن تصنيف أركان إدارة بوش للإسلام بأنه دين ينطوي على إباحة لاستخدام العنف والإرهاب، يصبّ في خدمة استراتيجيتها الداعية إلى إعادة تشكيل دول الشرق الأوسط الكبير سياسيا وثقافيا، ما يؤدي إلى الافتئات على خصوصيتها الوطنية والثقافية.

إذا كان هذا اللاإعتراف الأمريكي ببعض الدول العربية يبدو مموهاً بمظاهر الاعتراف الدبلوماسي، فإنه ظاهر وسافر وفاجر إزاء بعضها الآخر، لاسيما لبنان والعراق وفلسطين.

في لبنان، تمكّنت السعودية من إقناع طرف فاعل في الفريق الحاكم بمبادئ تسوية متوازنة مع فريق المعارضة، لكن رفض سفير أمريكا في بيروت لمشروع التسوية أنهى المبادرة السعودية في مهدها.

في العراق، جرت مبادرات مصرية وقطرية داخل جامعة الدول العربية وخارجها من أجل التوفيق بين الأطراف العراقيين المتصارعين، لكنها كانت تصطدم دائما بجدار الرفض الأمريكي.

في فلسطين، تمكّنت السعودية من جمع مختلف الأطراف الفلسطينيين في مكة المكرمة والتوصل معهم إلى اتفاقية متوازنة انبثقت منها حكومة وحدة وطنية. لكن إدارة بوش، بتحريض علني من حكومة إيهود أولمرت، تحفظت على الاتفاقية، بادئ الأمر، ثم أعلنت عدم الاعتراف بحكومة إسماعيل هنية الوطنية الائتلافية، مع استدراك غامض لجهة قبولها التعاطي مع بعض وزرائها المستقلين!

ldquo;إسرائيلrdquo; لا تعترف أبداً بالشعب الفلسطيني، وترفض مبدأ الأرض مقابل السلام كشرط للاعتراف المتبادل بين دولتي ldquo;إسرائيلrdquo; وفلسطين. إنها تقبل فقط بمبدأ الأمن مقابل الأمن وليس الاعتراف المتبادل لأنها لا تريد البتة الاعتراف لا بالفلسطينيين ولا بالعرب. لماذا؟ لأن ldquo;إسرائيلrdquo; لم تستكمل توسيع دولتها بعد، وليست مستعدة بالتالي للاعتراف بدولة فلسطينية ولا بدول عربية مجاورة ذات حدود دولية معترف بها. فالاعتراف بها يشكّل قيداً سياسياً على سياستها التوسعية ولا يخدمها في الحاضر أو في المستقبل.

من هنا يستقيم القول إن واقع الحال يشير إلى حقيقة ساطعة هي وجود اعتراف من طرف واحد في إطار العلاقات بين أمريكا (وإسرائيل) والدول العربية. فالعرب يعترفون بأمريكا. لكن أمريكا، ومعها ldquo;إسرائيلrdquo;، لا يعترفان بالعرب.

ثمة أسباب، بطبيعة الحال، لهذه الظاهرة أبرزها اثنان. الأول، أن العالم يحترم من له قدرة على النفع والضرر. والحال أن العرب لا يحسنون إلحاق الضرر إلا بأنفسهم ! الثاني أن لإدارة بوش مخططاً يرمي إلى إعادة تشكيل المنطقة. وهو مخطط ينطوي على تفتيت لبضعة كيانات عربية ويتطلب، بالضرورة، تعديل واسع في حدودها السياسية. فلا مصلحة، والحالة هذه، لأمريكا بأن تعترف اليوم بأوضاعٍ وحدودٍ تعتزم إعادة النظر بها غداً.

الأمر نفسه ينطبق على ldquo;إسرائيلrdquo;. فقد قضمت بالاستيطان أكثر من 22 في المائة من مساحة الضفة الغربية، وهي تعتزم قضم المزيد ولا يعقل أن توافق على أية تسوية يكون من شأنها إقامة دولة فلسطينية بحدود سياسية معترف بها. فالمشروع الصهيوني لم ينجز بعد، في رأي أصحابه، والتمدد إلى الجوار العربي ما زال قائما، وانهيار النظام العربي يشجع أصحاب المطامع التوسعية على المزيد من التمدد.

هكذا يتلاقى المشروع الإمبراطوري الأمريكي مع المشروع التوسعي الصهيوني ولا يجدان في طريقهما عائقا جدّيا إلاّ المقاومة الإسلامية أو الإسلام الجهادي. لأن الأمر كذلك، فقد قررت إدارة بوش مواجهة هذا العائق بتنفيذ مخطط للانتقال بدول المنطقة من حال التجزئة إلى حال التفتيت بطريق إشاعة فوضى (تسمّيها خلاّقة) لشلّ قدراتها ومنعها تاليا من إعاقة عملية إعادة تشكيلها سياسياً وثقافياً.

العرب، لاسيما في بلاد الرافدين وبلاد الشام، هم اليوم في قلب المجهود السياسي والحربي الأمريكي الرامي إلى تفكيك العراق وتقسيمه ثلاثة أجزاء، كما الضغط على سوريا (وربما ضربها) لفك تحالفها مع إيران وإضعافها وحملها تاليا على الرضوخ لمخطط إقامة صيغة فدرالية أو كونفدرالية للبنان، تتم في سياقه محاولة القضاء على المقاومة الإسلامية (حزب الله) أو تعطيل فعاليتها على الأقل. وليس بعيداً من هذا المخطط يجري تنفيذ مخطط ldquo;إسرائيلrdquo; التوسعي المار ذكره.

في ضوء هذا كله، تصعب رؤية تسوية قريبة للوضعين المتفجرين في لبنان وفلسطين. لا أمريكا وصلت، بعد، إلى حالٍ من الإرهاق في العراق تحملها على تعديل سياستها الراهنة، ولا ldquo;إسرائيلrdquo; تشعر بأن الحال الفلسطينية، لاسيما بعد طلاق ldquo;فتحrdquo; وrdquo;حماسrdquo;، تستوجب إعادة النظر بسياستها التوسعية.

ثمة حال متمادية، هذه الأيام، من الفوضى الخلاّقة قد تخالطها ضربة ldquo;إسرائيليةrdquo; مباغتة لسوريا لإضعاف المحور الإيراني السوري بقصد حصول أمريكا على شروط أفضل لحلفائها العراقيين واللبنانيين، وبالتالي لبقائها في العراق ولتمدد ldquo;إسرائيلrdquo; في الضفة الغربية، وللمواجهة الأمريكية الصهيونية للمقاومة الإسلامية على امتداد القارة العربية. في المقابل، يبدو الإسلام الجهادي، السياسي في مواقع السلطة والميداني في صفوف المقاتلين، مصمما على متابعة المواجهة وعلى تطويرها بتوسيع دائرة الاشتباك مع أمريكا وحلفائها على مدى العالم برمته.

الصراع مستمر والزمن طويل.