علي العميم

تعليقاً على إحدى حلقات برنامج (مع هيكل) الأسبوعي الذي تبثه قناة الجزيرة، والذي تناول فيه صاحبه الصحافي العربي الأشهر، محمد حسنين هيكل، طرفاً من حكاية العلاقات السعودية المصرية بعد ثورة 23 يوليو ، كتب الدكتور عبدالله ناصر الفوزان قبل ثلاثة أسابيع مقالة في جريدة الوطن السعودية، خلاصتها هذا السؤال:

هل كان موقف الملك فيصل (الصلب) من الشيوعية استجابة لطلب أمريكي؟

ومع أني لا أعمل في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية أو دارة الملك عبدالعزيز، حيث وجه الدكتور الفوزان سؤاله إليهما حصراً، إلا أني سأجيب ليقيني أن سؤاله من حق الجميع الإجابة عنه، سواء أكانوا صحافيين أو محللين سياسيين أو مثقفين أو مؤرخين أو جهات علمية رسمية، كالمركز والدارة، أو هيئات وشخصيات أكاديمية معنية بالسياسة وبالتاريخ الحديث.
أجيب عن سؤال الدكتور الفوزان بالقول، أن موقف الملك فيصل بن عبدالعزيزا لمسرف في عدائه تجاه الشيوعية والاشتراكية والاتحاد السوفيتي ودول المنظمة الاشتراكية، كان موقفاً ذاتياً ذا بعد أصيل في شخصيته السياسية والثقافية والعقائدية. ولم يكن هذا الموقف المسرف في عدائه، بطلب من أمريكا أو أنه كان استجابة لرغبتها.

إن تعليل هيكل لعداء الملك فيصل للشيوعية والإتحاد السوفيتي، هو في الحقيقة استعادة لكلام دعائي قديم، كان يردده الرئيس جمال عبدالناصر، أيام احتدام صراعه السياسي والعقائدي مع السعودية. وهو الكلام الذي كان ينعت الملك فيصل فيه، بأنه مجرد دمية بيد أمريكا !

ويكفي لنقض كلام وتعليل دعائيين كهذين من أساسهما، أن نذكّر الناس، بأن الملك فيصل كان مصنفاً لدى قسم من أرباب السياسة والاعلام الأمريكي في زمنه، بأنه (لا سامي)، أو بتعبير آخر مضاد للسامية.وهما تعبيران لدي الغرب, لأن العرب لايمكن ان يكونوا مناهضين للسيامية لأنهم ببساطة لايمكن أن يكونوا كارهين لأنفسهم,فهم أيضا ساميون .

ولنا أن نتساءل هنا: إذا كان الملك فيصل دمية بيد أمريكا، كما كان يردد عبدالناصر. وأنه كما أوحى هيكل ناهض الشيوعية بطلب من أمريكا، لإبعاد السعودية عن مصر، فلماذا لم يكف الملك فيصل ndash; مادام أنه إلى هذا الحد سلس القياد- عن عدائه للسامية، بحسب ما كان يرى بعض النخبة السياسية والإعلامية في أمريكا.

إننا نعلم علم اليقين أن هذه التهمة، تهمة معاداة السامية، من الكبائر أو الخطايا الكبرى في الوعي الغربي التي لا يصح فيها الغفران. ونعلم ما لليهود والصهيونية من نفوذ كبير في دائرة صنع القرار السياسي وشبكة الاعلام وحلقات تشكيل الرأي العام في أمريكا. فلماذا لم يتخل الملك فيصل عن فكرته حول العلاقة التلازمية ما بين الصهيونية والشيوعية - أو على الأقل يشذّبها ndash; وهي النظرية التي يتم الربط فيها بين الصهيونية والشيوعية على نحو آلي ووفق تصور تآمري للتاريخ، بحيث تبدو الشيوعية ndash; ولأغراض في غاية السوء ومنتهى الشر ndash; انبثاق عن اليهود, وتتجلى بوصفها رديفة أو أخت الصهيونية التوأم.

إن هذه الفكرة التي يعتنقها الملك فيصل ويؤمن بها أشد الإيمان، كان يجاهر بها ويدعو إليها بحرارة حتى أمام رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية وأمام كبار المسؤولين الأمريكيين من غير اليهود.
ولعل من هم أسّن منا، لم تغب عن ذاكرتهم الضجة الكبرى التي افتعلها يهود نيويورك حوله إبان زيارته لواشنطن سنة 1966م، استجابة لدعوة من الرئيس ليندون جونسون.

فقد كان من المقرر بروتوكولياً، أن يحضر مأدبة عشاء يقيمها على شرفه محافظ مدينة نيويورك. لكن قبل ذهابه إلى نيويورك لحضور مأدبة العشاء هذه، أقيم له في واشنطن مؤتمر صحافي، فسأله صحافي: لماذا تعطي سفارة المملكة في أمريكا تأشيرات دخول السعودية للأمريكيين غير اليهود ولا تعطيها للأمريكيين اليهود؟

فأجاب الملك فيصل: quot;لا إعتراض لدينا عن اليهود كيهود لأننا نحترم الأديان. لكننا نعترض على الصهيونية كحكومة معادية لنا وهي مجسدة في إسرائيل. وبما أن الغالبية الساحقة من اليهود في أمريكا يدعمون الدولة الصهيونية دعماً مطلقاً، فنحن إذن، بطبيعة الحال، نعتبر كل من يدعم عدونا غير مرغوب فيه في بلادنا، إن لم يكن هو أيضاً عدواً لناquot;.

وعلى أثر هذا الجواب، وبعد أن تناقلته وسائل الإعلام، اضطر محافظ مدينة نيويورك بسبب ضغط اللوبي اليهودي في نيويورك إلى إلغاء مأدبة العشاء. ومن يريد تفصيلاً أكثر عن الحادثة، يمكن أن يرجع إلى كتاب (كميل نوفل يتذكر . . عرب أمريكا، رهائن بائسة).

إننا عندما نتأمل في هذا الأمر نجد أن أمريكا الدولة العظمى سايرت حليفها السياسي في المنطقة العربية وماشته، وغضت الطرف عن بعض أراءه وأفكاره التي كانت تزعجها أشد الإزعاج. وهذا يعني أنه فرض نفسه على أمريكا حليفاً بشروطه هو، رؤى وتصورات.

أما أن تكون أمريكا مستفيدة من جهوده الكبيرة في ميدان مكافحة الشيوعية عربياً وعالمياً، فهذه مسألة آخرى، ولا تعني أبداً أنه يكافح عنها بالوكالة بل على العكس من ذلك، فهو كان يرى أنه هو المستفيد من أمريكا في حربها الضروس لعقيدة، محاربتها ndash; إضافة إلى مسألة استعادة فلسطين ndash; هما القضيتان التي ندب من أجلها حياته.
لماذا عادى الملك فيصل الشيوعية عداوة مريرة؟

عاداها عداوة مريرة لأسباب متعددة، وسأسلسلها على نحو تدريجي:

-دولته ومنذ بزوغها الأول ترتكن، فكرة وحركة، إلى تصور ديني خالص هذا التصور الديني الخالص، هو المذهبية الحنبلية والتي تقطع شوطاً بعيداً في احتذاء سنن السلف الأول إلى حد التصلب والحرفية. ويضاف إلى هذا السبب العام، تلقيه في صغره وفي يفاعته هو وأخوه الملك سعود وإخوتهما من الجيل الأول من أبناء المؤسس عبدالعزيز، تعليماً دينياً محضاً. ومن المؤكد أنه في هذا التعليم الذي تلقاه كان الأكثر رسوخاً والأمتن صقلاً مقارنة بإخوته من الجيل الأول.

ويعزى هذا لأنه تربى - وذلك بسبب وفاة أمه بعد خمسة أشهر من وضعه ndash; في بيت جده لأمه الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ، وآل الشيخ ndash; كما هو مشهور ndash; بيت ديني عريق.

-التوجس من الخطر الشيوعي في السعودية، هو توجس قديم. وكان حاضراً قبل عهد الملك فيصل وقبل عهد سلفه الملك سعود. ويمكن أن نقرر أنه كان حاضراً منذ بدايات الحديث عن هذا الخطر في مصر. فوالدهما الملك المؤسس عبدالعزيز كان يرقب الأخبار التي تتوالى من مصر عن الخطر الشيوعي بعين الحذر، وكان يستمع إلى تحليلات مستشاريه بهذا الشأن بمنتهى الاهتمام والتيقظ. حيث علت في مصر في عقدي الثلاثينات والأربعينيات الميلادية نبرة التحذير منه، باعتبار الشيوعية تتهدد مصر من داخلها.

-رافد ثقافة الملك فيصل الأساسي، فيما يتصل بالشأن الحديث والمعاصر، تلقاها من طبقة المستشارين المنتشرين في بلاط أبيه الملك المؤسس عبدالعزيز، وكان أغلبهم من النخبة العربية التي تنتمي إلى تجاه عروبي، يميني ليبرالي، يؤطره شعور اسلامي عام. وهؤلاء هم الذي كان لهم فضل توجيهه هو وبعض من أخوته من الجيل الأول في قراءات كان لها دور بارز في تحديد خياراتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعقائدية. كما أن هؤلاء المستشارين ، كانوا بمثابة القنطرة التي أوصلت الملك فيصل إلى تبني فكرة التوأمة ما بين الصهيونية والشيوعية.

-ينتمي الملك فيصل بن عبدالعزيز إلى طبقة أرستقراطية سلالية، والأرستقراطية بمختلف أنواعها - كما علمنا التاريخ الأوربي ndash; هي بالسليقة تنفر من النزعات الثورية وتعاديها سواء أكانت هذه النزعات ديمقراطية أو اشتراكية أو فوضوية أو شيوعية. هذا من حيث الأساس والتكوين الأصلي للطبقة الأرستقراطية. ولا عبرة هنا بالاستدلال على ما يخالف هذا الحكم، بالإشارة إلى أفراد من طبقات أرستقراطية تبنوا نزعات ثورية أو شاركوا في ثورات سياسية اجتماعية.

فعادة ما يكون هؤلاء ينتمون إلى أرستقراطية منافسة، أو يكونون معزولين أو مهمشين داخل طبقتهم الأرستقراطية المسيطرة.

-تسللت الشيوعية إلى السعودية منذ وقت مبكر من تاريخ تأسيس كيانها السياسي الموحد، وذلك ما بين أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات الميلادية، مع العمالة الأجنبية الأوربية والعمالة العربية. وكانت البيئة الملائمة لوجود الشيوعية والاشتراكية وانتشارهما، بيئة أرامكو. فاعتنقها عدد من العمال المحليين في أرامكو وبعض الكوادر الإدارية ونفر من المثقفين في أرامكو وفي غير أرامكو.

وهذا يعني أن الملك فيصل وهو يحارب الشيوعية بضراوة وحماس منقطع النظير في الخارج، يحاربها أيضاً من أجل قضية داخلية تهدد أمن بلاده. ويجب أن لا ننسى أن المنطقة العربية وغيرها من المناطق المجاورة، كانت منطقة صراع نفوذ سياسي وأيديولوجي، ما بعد الحرب العالمية الثانية، ما بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية.

كل هذه الأسباب قادت الملك فيصل إلى أن يكون في طليعة المعسكر المعادي للشيوعية.

إن ما أغفله هيكل في الحلقة التي عرض الدكتور الفوزان بعض ما جاء فيها في مقالته المنشورة في الوطن، هو ما هو سبب مباركة الملك فيصل لثورة 23 يوليو منذ قيامها، حينما كان نائباً للملك سعود ووزير الخارجية. مع أن منطق السياسة كان يجب أن يقوده إلى معاداتها ، لأن الفترة الزمنية التي قامت فيها ثورة 23 يوليو كانت فترة مزعجة للملكيات العربية، فقد شهدت أوربا قبل قيام تلك الثورة سقوط عدد من الملكيات فيها، وقيام ثورة 23 كان إيذاناً بانتقال هذه الظاهرة إلى العالم العربي؟

سبب المباركة هو أن الرئيس عبدالناصر كان مثل الملك فيصل، معادياً للشيوعية وللإتحاد السوفيتي وقد استمر في عدائه للشيوعية إلىمطلع الستينيات ,وللإتحاد السوفيتي إلى سنة 1954م.
وختاماً وبعد هذا التوضيح يصح لنا، أن نقلب سؤال الفوزان، ونوجهه إلى هيكل: هل عداء الرئيس عبدالناصر للشيوعية وللإتحاد السوفيتي كان لأسباب تخصه أم أنه أتى استجابة لرغبة أمريكية ؟!