سليم عزوز
بأسلوب مهذب قال لي: تسمح تفتح. وأشار الي حقيبة صغيرة احملها في يدي. فما كان مني إلا ان أمددتها له: تفضل، فاستأذن أن أقوم أنا بهذه المهمة، من باب الأدب، واكتفي بإلقاء نظرة بداخلها.
مشهد تفتيش حقائب الركاب وما يحملونه أصبح مألوفا في محطات مترو الانفاق بمصر، منذ عدة أيام وحتي الآن، وصار من الطبيعي ان تجد عددا من رجال الشرطة يجلسون في مداخل المحطات، ويقومون بعملية التفتيش بشكل واضح، وقد آثار هذا اندهاش الناس في البداية، لكنهم عندما علموا بأسبابه تفهموا الموقف، وصار الجميع يتقبلون طلب فتح الحقائب والتقليب فيها بنفس راضية، لدرجة ان زميلا قال لنا انه رفض ان يخضع للتفتيش، فانتقده زملاء كانوا جالسين معنا، واعتبروا موقفه تنطعاً في غير محله.
ما يجري يرجع الي ان معلومات توافرت لدي أجهزة الأمن تفيد أن تنظيم القاعدة لصاحبه الشيخ أسامة بن لادن وشركاه، يخطط لعمليات إرهابية في مصر والسعودية، وانه يستهدف إحداث تفجيرات في مترو الانفاق، لكي يضمن عددا كبيرا من الضحايا من ناحية، ومن ناحية أخري حتي يضرب هذا المرفق الحيوي، الأمر الذي سيؤدي الي هروب الناس منه، فتتعطل مصالحهم واعمالهم وحياتهم، لأن القاهرة التي تشكو شوارعها من الزحام، لن تتسع حينئذ حتي للمشي علي الأقدام.
لقد وصلت الرسالة لأجهزة الأمن فتم استدعاء المختصين علي عجل، ليقوموا بعملية مسح شامل لخطوط المترو، ثم بدأت عملية التفتيش، ولاشك ان هذه اليقظة الأمنية جعلتني اشعر بالاطمئنان، وأنا الذي استخدم مترو الانفاق في غدوي ورواحي، لأن سيارتي من نوع: من يحب النبي يزق ، ولا استخدمها إلا في الشديد القوي، فضلا عن انني ممن يكرهون السياقة، نفس كراهيتي للرئيس الأمريكي بوش، ونفس كراهيتي الآن لاسامة بن لادن وشركاه!
لعله بن لادن الذي وضع السعودية ضمن محور الشر الخاص به، والذي يضم مصر والسعودية وباكستان، ولعله نائبه أيمن الظواهري الذي ادخل مصر في هذا المحور، وعليه جاءت التهديدات بتفجير مترو الانفاق، لينتقم حضرته من النظام المصري، وينتقم من رفاق السلاح في تنظيم الجهاد الذين تابوا وأنابوا وأوشكوا ان ينضموا للحزب الحاكم، ليثبت لأهل الحكم: انهم ولا حاجة. فقد تراجعوا عن فكر العنف، كما تراجعت من قبلهم الجماعة الإسلامية، ولم يعد أحد يؤمن بهذه الأفكار من الذين ينتمون للتنظيمات الجهادية في فترة السبعينيات وما بعدها، سوي الشيخ ايمن الظواهري، ومن التحق به في جبال تورا بورا من عناصر هذه التنظيمات.
للبيت رب يحميه، وللنظام السياسي في كل من مصر والسعودية أجهزة تعمل علي استقراره في مواجهة تحديات القاعدة، ولا تأخذ عملياتها - مهما كانت قوتها - من قوة النظامين الا ما يأخذه الريح من البلاط.
بيد ان المشكلة في ان الظواهري وصحبه يوجهون رصاصهم الي صدر المواطنين العزل، من أمثالي، ظنا منهما اننا لو لقينا حتفنا سوف يسقط نظام الرئيس مبارك في اليوم التالي، لأنه عجز عن حمايتنا، او ان الشعب سوف يتحرك ليسقط النظام الحاكم في مصر، ما دام وجوده كان سببا في ان تحل علينا لعنة القاعدة.
الي هنا يبدو لي ايمن الظواهري (الألقاب كما المقامات محفوظة) يعيش مراهقة متأخرة، علي الرغم من ان كل الاخوة في مصر تجاوزوا هذه المرحلة، وأثمر تجاوزها المراجعات التي كتبوها، ولا أظن أنهم أتوا بالتائهة، او ان الفقه الجديد كان غائبا عنهم، وأنهم كانوا طيلة ربع قرن من الزمان يقومون بعمليات حفر بحثا عنه، حتي عثروا عليه مؤخرا.
فمنذ نشأت هذه الجماعات وظهور أفكارها المتطرفة والعلماء يقومون بالرد عليها، بهذا الفقه، وقد كان المنتمون إليها يتهمونهم بأنهم من شيوخ السلطة. ممايؤكد ان الأمر كان مرتبطاً في الواقع بمرحلة المراهقة، فلما تجاوزوها قفزوا علي أفكار المراهقين!
في مرحلة المراهقة كان الشبان يظنون ان لديهم القدرة علي تغيير وجه العالم، وكانوا يهتفون في حضرة شيخهم: عمر يا عبد الرحمن يا مزلزل عرش السلطان، وانتهي الأمر بالشيخ والمريدين علي هذا النحو الذي نري.
لا أشمت في الرجل بل أتمني مخلصا ان يتجاوز محنته، وأثمن محاولات الإفراج عنه، فقد غرر به الهتيفة من حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، مستغلين في ذلك انه كفيف البصر، قبل ان يتجاوزوا مرحلة المراهقة، وهي المرحلة التي دفعت المراهقين الي تصور أن إسقاط نظام الحكم في مصر يكون باغتيال ضابط شرطة، او السيطرة علي مديرية أمن أسيوط، او السطو علي محلات الذهب المملوكة لنفر من الأقباط، او استهداف وزيري الداخلية و الإعلام.
وفي هذه المرحلة كان الشبان يعتقدون انهم لن يحكموا مصر فقط، بل سيحكمون العالم الإسلامي كله، ليقيموا دولة الخلافة الإسلامية، يصبح فيها كرم زهدي هو خليفة المسلمين، والشيخ ناجح ابراهيم هو حامل مفاتيح بيت المال.
لكن القوم بعد تجاوز هذه المرحلة العمرية الممتلئة بالحيرة والارتباك، اكتشفوا أنهم كانوا يعانون من أحلام اليقظة، وكما ان من زملاءهم في هذه المرحلة ممن يحلمون أحلاما متواضعة، فمنهم من يحلم بأن يكون ضابط بوليس قيمة وسيما ، وآخر يحلم بأن يكون طبيبا بالبالطو الأبيض، وثالث يحلم بأن يكون رجل أعمال من عينة الحاج متولي يجمع حوله من الحسنوات أربع، الواحدة منهن مثل لهطة ، وفي قراءة أخري لحظة القشطة، فإن القوم كانوا يحلمون بالخلافة ومفاتيح بيت مال المسلمين والسبايا، والحديث بالنحوي: ويحك ثكلتك أمك. واغرب عن وجهي وإلا ضربت عنقك بالبرطوشة.
قتل الشبان من قتلوا، وحاولوا اغتيال من حاولوا، واستولوا علي مخافر الشرطة هنا وهناك، وضربوا السياح، وسطوا علي محلات الذهب، ولم يسقط النظام، ولم يمش كرم زهدي علي السجادة الحمراء، وخلفه الخدم والحشم، وكان طبيعيا ان يتجاوزوا مراهقتهم، بعد اكثر من ربع قرن من الزمان.. تأخروا بعض الشيء، لكن المهم انهم تجاوزوها، وبقي أيمن الظواهري كما هو، وأسوأ أنوع المراهقة كما يقول علماء النفس هي المراهقة المتأخرة!
لا الرئيس مبارك ولا أي من أفراد أسرته، ولا حتي أقل مسؤول في الدولة المصرية يتعامل مع مترو الأنفاق، والمعني ان سيادته سيستهدف أمثالي من عامة الشعب، ويخطيء إن ظن أن تعطيل المترو، وتصويري أنا غارقا في دمائي سينتج عنه خروج الجماهير الي القصر الجمهوري!
ويخطيء الظواهري أيضا ان اعتقد بمثل هذه العمليات انه سيأدب الشعب المصري علي عدم مواجهة حكامه، فلا يقدر علي القدرة إلا القادر، وسيادته خرج من السجن ليهرب للخارج، ويغير في ايديولوجيا التنظيم، فبعد ان كانت مواجهة العدو القريب مقدمة علي مواجهة العدو البعيد صار العكس، وتحالف مع بن لادن، وقاما بعمليات في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها.
أشعر ان الدافع الي كل هذا هو ان منسوب الكراهية في القلوب تجاوز القدر المسموح به، حين تحول الرجلان ومن معهما الي معاول هدم، تريد ان لا ينعم أحد ولو من المسلمين بالسعادة او بالحياة الآمنة، وعزز من ذلك الأوهام التي تشيعها مرحلة المراهقة، لاسيما المتأخرة.
ان بلدانا غربية كانت تمثل للعرب والمسلمين المأوي والملاذ الآمن، وأطعمت المضطهدين في أوطانهم من جوع وأمنتهم من خوف، لكن أبي الرجلان إلا أن يدفعا أهلها الي النظر الي كل ما هو مسلم او عربي علي انه إرهابي يلف حول خصره حزاما ناسفا، وصار أي رمز إسلامي محرض علي اضطهاد صاحبه، ولو كان طرحة تضعها امرأة علي رأسها.
هل يوجد عاقل رشيد، او حتي متطرف برخصة، يوافق علي عمليات الإرهاب التي تجري في الحافلات التي يستقلها المواطنون العزل، وقد كانت وعلي أكثر من نصف قرن تمثل قبلة للهاربين من جور الأنظمة، ومن مصر فر إليها الهاربون من جور عبد الناصر، كما فر المختلفون مع نظام السادات، وكذلك الحال بالنسبة للإسلاميين في عصر مبارك، فوجدوا فيها مرغما كثيرا، لم يجده الفارون الي دول الصمود والتصدي، التي فوجيء الهاربون إليها بأنهم كالمستعين من الرمضاء بالنار!
بريطانيا استوعبت هؤلاء وانشطتهم، ولم تبخل عليهم بجنسيتها، ومنحت بعضهم حق اللجوء السياسي، ولم تستمع الي نصائح السلطة المصرية بأن هؤلاء سيهددون الأمن حيث يقيمون، وأنهم ليسوا أصحاب رأي، وإنما هم مجرمون هاربون من العدالة، فاذا بالعمليات الإرهابية تمثل دليلا علي صدق نصائحها، وصاروا الآن يتوجسون خيفة من كل عربي ومسلم، فمن لسعته الشُربة فإنه لا يلام ان نفخ في الزبادي!
قد يكون بن لادن ومن معه قد عز عليهم أن ينعم هؤلاء الاخوة بالستر، فكان لابد من ان يقلبوا حياتهم رأسا علي عقب، فلا يكون هناك مستقر ومستودع إلا معه في جبال تورا بورا!
واذا كان موقفه من إخوانه في الله مفهموم، فماله ومالنا، وهل يتصور هو وتابعه الظواهري انه اذا هدد أمنا في مصر، واذا عجزنا ان نسقط النظام ونسلم له القصر الجمهوري تسليم مفتاح أننا سننضم له؟.. ماذا يصنع بنا، ونحن ليس لنا في الكر والفر، ونحن لسنا لا من شيعته ولا من اتباعه، ولا يمكن ان نكون منهم لأننا لسنا نعاني المراهقة المتأخرة، رحم الله أيام المراهقة التي كانت تدفعني للاعتقاد بأنني لو أمسكت شومة لفرت من أمامي كل الجيوش العربية!
ويا عزيزي الظواهري لست ساعياً الي ان أعاديك او أن أصادقك، فلست مراهقا حتي أقدم علي هذه الخطوة او تلك، فقط أقول لك اذا كان لك حساب قديم مع أهل الحكم في مصر، فصفيه بعيدا عني.. ادع عليهم يا أخي، لكن ابعد عن سكتي فانا لحمي مر، ومن يأتي علي الولايا - جمع ولية - لا يكسب أبدا.. إلهي تموت يا بعيد لكي نستريح منك.
التعليقات