غازي العريضي

ودّع اللبنانيون عام 2007 بشيء من رد الفعل تَجسد بالإصرار على معايشة العيد والسهر والتسوق، وكأنهم كانوا يريدون سرقة الأيام الأخيرة من العام، وفي الوقت ذاته تناسِي أو تجاوز أو تجاهل أو عدم الاكتراث ببعض التصريحات التي أطلقت في اليوم الأخير من السنة الفائتة مصرِّين على الفرح. بعضهم عبّر عن تأقلم مع ما يجري في البلد. البعض الآخر سئم كل شيء. والبعض الثالث أراد الاستفادة من هدنة. والبعض الرابع أراد الخروج من دائرة الملل والقلق والخوف، وثمة من ذهب إلى التحدي. وبالتأكيد كان ثمة من يتذكر أزماته المعيشية اليومية وأبناءه وأحبابه الذين افتقدهم خلال العام الماضي، في أحداث مختلفة من الخطف والقتل إلى الاغتيال إلى التفجيرات إلى نهر البارد إلى الحوادث المختلفة.

لكن كلهم، وبعد انتهاء السهرة عادوا إلى الفكرة أو عادت إليهم. فالأزمة قائمة، والتصعيد مستمر والآفاق مسدودة، والأخبار عن التحضيرات للتصعيد والتحدي والتوتير تتصدر المجالس والشاشات، ولماذا؟ بل من أجل ماذا؟ الكل يقول: من أجل البلد. من أجل أهله. وأهل البلد هم الذين يؤيدون هذا الفريق أو ذاك، أي الفريقين المنقسمين.

يبدأ العام بإعلان توقف وساطة هذه الدولة مع تلك من أجل حل القضية اللبنانية. وما دامت لبنانية، فلماذا التوسط بين الدول وفي معزل عن اللبنانيين أو عن بعضهم؟ ويبدأ العام بالدعوة إلى مؤتمرات واجتماعات من أجل لبنان. ونتائجها مرهونة بمدى التوافق على الحلول، ثم بمدى الالتزام بالتوافق، والتجارب السابقة كلها غير مشجعة.

ويسود الحديث هنا وهناك عن مفاوضات إقليمية وتحريك لمسارات سورية- إسرائيلية، وإسرائيلية- فلسطينية، وعن أدوار وسيطة بين هذه الأطراف والتحضير لاجتماعات جديدة بعد أنابوليس، وترسم سيناريوهات وتدرس طلبات لم يظهر منها شيء لمصلحة لبنان واللبنانيين!! وكلما تقدم تفاوض كلما ازدادت الخشية من أن يكون على حساب لبنان. وكلما ارتفع منسوب التعارض كلما ازدادت الخشية من أن ينعكس ويترجم على أرض لبنان. وترافق ذلك مع تصريحات لقوى سياسية مختلفة ترفض التدخل الخارجي وتدعو إلى التوافق، بعد مرحلته الأولى باعتماد العماد ميشال سليمان مرشحاً توافقياً لرئاسة الجمهورية. لكن أزمة الثقة كبيرة بين اللبنانيين. وبلغت الحساسيات حدوداً خطيرة فرفع صورة للرئيس الشهيد رفيق الحريري ونجله النائب سعد الحريري كاد يشعل فتنة كبيرة في أحد أحياء بيروت. وتحوّل العمل والنقاش إلى معالجة حرب الصور وإلى الشروط والشروط المقابلة لرفع او لنزع صورة هذا أو ذاك أو التوصل إلى اتفاق لنزع أو رفع كل الصور!!

نحن مقبلون على أسابيع وأشهر صعبة. ومؤسف أن نقول للناس ذلك في بداية عام جديد. لكن الحقيقة تظهرها المؤشرات والأفعال على الأرض. والصعوبة تكمن في تعقيدات تجاوز أزمة الثقة وغياب الحوار الداخلي وانسداد آفاق التسوية رغم الاتفاق على العماد سليمان رئيساً للجمهورية. ولا تقوم تسوية بدون تنازلات. كما لا تقوم تسوية بالتأكيد بفرض الشروط كما تحاول المعارضة أن تفعل بعد أن قدمت الأكثرية تنازلات كثيرة، والجميع مدعو إلى ذلك والتعاون في هذا السياق مع الرئيس الجديد المنتخب مع وقف التنفيذ حتى الآن.

أول مرة رفع فيها شعار quot;لا غالب ولا مغلوبquot; كان بعد ثورة عام 1958. اليوم يتكرر الشعار ذاته بعد نصف قرن حافل بالتوترات والمشاكل والتجارب التي لابد من استخلاص الدروس والعِبر منها. لكن يبدو أننا لم نتعلم أو تعلمنا الكثير لكننا تجاوزنا الواقع وعدنا بعد ذلك إلى مطلب اللاغالب واللامغلوب الذي ينادي به كثيرون بعد أثمان كبيرة دفعناها من دمائنا وأبنائنا وحياتنا واقتصادنا ومستقبلنا.

لا غالب ولا مغلوب. لبنان محكوم بالتوازنات. وأي إخلال بها يؤدي إلى التوتير. وإذا كانت الأكثرية المنتخبة لا يجوز أن تحكم وحدها بل يجب أن تكون شراكة في الحكم، فلا يجوز أيضاً للمعارضة أو الأكثرية أن تمتلك حق quot;الفيتوquot; على كل شيء لأنها تكون كمن يحكم وحده ويستأثر بكل شيء من باب ما يسمونه quot;الثلث المعطِّلquot; أو quot;الثلث الضامنquot; أو ما شابَه.

وفي الوقت ذاته، ليست الدساتير مقدسة. هي وجدت لخدمة الناس. وبالتالي يمكن أن تخضع دائماً لإعادة النظر والدراسة والتعديل حسبما يقتضيه الواقع القائم في البلاد، والمعادلات السياسية والتجارب التي تعيشها. لكن، في بلد مثل لبنان ينبغي أخذ مسألة التوازنات بعين الاعتبار أيضاً، وبالتالي مناقشة الأمور بهدوء وتروٍّ واختيار الوقت الملائم لطرح مثل هذه المتغيرات بشكل يكون ثمة ضمانة بعدم الوقوع في توترات ومشاكل.

وأشير هنا إلى اتفاق الطائف الذي نسمع ومن أجل حسابات في quot;البازارquot; السياسي اللبناني والألاعيب الصغيرة، من يدعو إلى تعديله، وبشكل فيه الكثير من التحدي الذي يثير الكثير من الحساسيات وتحت عنوان إعادة تركيب السلطة في لبنان. كما نسمع من يدعو إلى تكريس أعراف جديدة في البلاد تتجاوز الدستور.

أعتقد أن التسوية ممكنة إذا انطلقنا من اتفاق الطائف نفسه، وأكدنا توافقنا مجدداً على ما أجمعنا عليه على طاولة الحوار، وكرسنا انتخاب العماد سليمان رئيساً للجمهورية، وشكلنا حكومة وحدة وطنية للرئيس فيها الحصة التي تضمن عدم الاستئثار والتفرد لهذا أو ذاك. هكذا نكون قد انطلقنا في اتجاه إعادة تأسيس الثقة بين اللبنانيين ومعالجة مشاكلهم بحوار هادئ، أما الاستمرار في سياسة التخوين والتشكيك والاتهام في ظل الفراغ في رئاسة الجمهورية، والتشكيك في الحكومة، والتهديد بمواجهتها في الشارع، وإقفال المجلس النيابي، فإن في ذلك خطراً كبيراً على البلاد وعلى كل اللبنانيين، وحرام علينا أن نعرضهم لهذا الخطر وإمكانية التسوية على الأسس التي ذكرنا قائمة، فكيف إذا وجدنا تقارباً في الطروحات حول بعض المُسلَّمات... ومرونة في التعاطي؟