محمد عاكف جمال
وقع الحدث فجر السادس من يناير الجاري على مسرح الخليج قرب مضيق هرمز، خمسة زوارق إيرانية متواضعة التسليح تابعة لبحرية الحرس الثوري تقترب من ثلاث بوارج أميركية، هائلة التسليح، بما لا يزيد على 300 متر مع رسالة لاسلكية تهديدية من هذه القوارب بتفجير البوارج خلال دقائق.
موقف لم يتجاوز أمده سوى لحظات كادت أن تؤدي إلى أول مواجهة حقيقية بين الولايات المتحدة وإيران، فقد أوشك قائد إحدى البوارج الأميركية، لحظة انعطاف القوارب الإيرانية للابتعاد، على إصدار أوامره بإطلاق النار للطواقم التي كانت تقف خلف المدافع المهيأة للإطلاق.
الروايتان اللتان تناقلتهما وسائل الإعلام عن الحدث لا تختلفان عن بعضها إلا في المعنى، فالجانب الإيراني يرى أن ما حدث هو أمر عادي، فكل طرف قد استعد للمواجهة وحالما تعرفا على بعض انتهى الحدث وهذا يمكن أن يتكرر في المستقبل، في حين يرى الطرف الأميركي أن الحدث هو استفزاز محسوب ولم يأت عبثاً.
الحدث ليس عادياً، فالبحرية الأميركية لها حضور قوي في الخليج إذ أن مقر قيادة الأسطول الأميركي الخامس يقع في إحدى دوله، وإيران على معرفة بكل قطعة بحرية أميركية تمخر فيه فهي ترقبها على مدار الساعة، وذلك لأن هذا الوجود المكثف للبحرية الأميركية تعتبره تهديدا لأمنها بالدرجة الأولى بسبب العلاقات المتوترة بين البلدين.
الجديد هو وقوع هذا التحدي وفي هذا التوقيت بالذات، قبل يومين فقط من بدء الرئيس الأميركي جولة مهمة في المنطقة تستغرق سبعة أيام في آخر سنة له في كرسي الرئاسة، والتي لم يخف أن من أهدافها احتواء إيران.
من المستبعد أن تكون القوارب الإيرانية في مهمة لتنال من البوارج الأميركية في هذه المواجهة، فذلك أمر مستحيل بسبب التباين الهائل بين قدرات القوارب الإيرانية و قدرات البوارج الأميركية من جهة، وخطورة عمل كهذا من الناحية السياسية من جهة أخرى.
إلا أن لإيران هدفا آخر من هذا التحدي وهو إضعاف مهمة الرئيس الأميركي، فهذا التحدي بمثابة رسالة توجهها إيران إلى أكثر من جهة. ولا يغيب عن الراصد ان يلحظ أن الولايات المتحدة قد سارعت إلى توظيفها لصالحها، فقد حرصت على إذاعة الخبر بعد مرور أكثر من يوم على حدوثه، وذلك ليكون له وقع أكبر كمقدمة لزيارة الرئيس بوش إلى المنطقة.
الاحتواء هو أحد السيناريوهات المعدة من قبل الولايات المتحدة لمواجهة إيران في منطقة الشرق الأوسط، إلا أنه ليس السيناريو الوحيد، فالإدارة الأميركية وبعض حلفائها في الشرق الأوسط لا يخفون قلقهم من تصاعد دور إيران، وهم جادون في البحث عن سبل لوقف ذلك.
وقد مهدت زيارات قام بها مسؤولون أميركيون لرسم معالم سياسة الاحتواء، كان آخرها زيارة وزير الدفاع الأميركي الأخيرة إلى المنطقة ودعوته في الندوة التي عقدت في البحرين لاحتواء إيران، حين طالب الدول الخليجية بالانضمام إلى تكتل عسكري مضاد لإيران.
إلا أن هذه الدعوات لم تلق استجابة من لدن هذه الدول التي ترى أن هنالك أكثر من طريق للحفاظ على أمن المنطقة وإدامة السلم فيها، فالتلويح باستخدام القوة من شأنه أن يزيد من قلق شعوب هذه المنطقة على مستقبل الأمن فيها.
ولم تكتف دول الخليج بمعارضة التوجه الأميركي، بل بعثت لإيران أكثر من بادرة حسن نية، فقد دُعي الرئيس الإيراني لحضور قمة مجلس التعاون الخليجي الأخيرة التي عقدت في العاصمة القطرية، وأعقب ذلك دعوة العاهل السعودي للرئيس الإيراني لأداء مناسك الحج في عيد الأضحى المنصرم.
إن البرود الذي قوبلت به دعوات الوزير الأميريكي لم يَفُتّ في عضد الإدارة الأميركية، فها هو الرئيس الأميركي قادم بنفسه لإنجاز ما لم يتمكن وزير دفاعه ومبعوثوه الآخرون من القيام به، وهو وضع اللبنات لاحتواء إيران، فما هو المقصود بالاحتواء؟
وصلت السياسة الأميركية حول قضايا عديدة في الشرق الأوسط إلى حالة الجمود الشديد، وأوشكت الإدارة الأميركية أن تفقد زمام المبادرة في عدد منها، لذا فهي ترى أنه قد آن الأوان للأخذ بمفاتيح المبادرة من جديد في قضيتين أساسيتين تتصدران الأجندة في زيارة الرئيس الأميركي إلى المنطقة:
الأولى تتعلق بالملف الفلسطيني حيث ترغب الولايات المتحدة في الحفاظ على الزخم الذي بدأ في أنابوليس، والثانية تتعلق بالملف الإيراني بعد أن فشلت الولايات المتحدة في تدويله. الاحتواء في علم السياسة هو تكتيك وليس استراتيجية، ويعني عزل البلد وإيصاله إلى حالة ركود شديدة تُرشح الوضع القائم فيه للتغيير، وقد استحدث هذا التكتيك للمرة الأولى كوسيلة لاحتواء الاتحاد السوفييتي.
هنالك مبالغات في تقدير دور الاحتواء في التغيير، فمن قصر النظر أن يُعزى لهذا التكتيك وحده انهيار الاتحاد السوفييتي، كما أن احتواء النظام العراقي السابق منذ عام 1990 باستصدار قرار خاص من مجلس الأمن الدولي لم يكن السبب في انهيار ذلك النظام.
احتواء إيران مشروع لن يكتب له النجاح، فقد فشلت الولايات المتحدة في بناء تحالف دولي لذلك بسبب ضعف الذرائع القانونية التي لديها، وفشلت كذلك أكثر من مرة في حمل مجلس الأمن الدولي على فرض عقوبات إضافية على إيران بسبب تمسكها ببرنامجها النووي.
إن سياسة الاحتواء التي يسعى الرئيس الأميركي إلى وضعها وتفعيلها لمواجهة إيران، لا تعدو تسليط المزيد من الضغوط على الدول العربية، الخليجية بشكل خاص، ودفع المنطقة إلى المزيد من العسكرة وإنعاش أسواق السلاح العالمية.
التعليقات