جميل مطر
الضجة مستمرة بسبب كتب ومقالات تحاول كشف مدى النفوذ الذي تمارسه قوى الضغط الصهيوني على عملية صنع القرار والسياسة في الولايات المتحدة. وتنتقل الضجة إلى أوروبا بعد أن كانت الأمور قد استقرت لصالح الجماعات الصهيونية ونفوذها الثابت والقوي وبخاصة في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا.
أميل أحياناً مع القائلين بأن تصرفات بعض قادة الحركة الصهيونية في الخارج وقادة ldquo;إسرائيلrdquo; توحي بأن الظروف قد نضجت إلى حد يسمح لقيادات اليهود في المجتمعات الغربية بتولي القيادة الروحية لهذه المجتمعات بعد أن كاد يستقر نفوذها السياسي. هناك حديث يتكرر عن انهيار القيم في أمريكا ودول الغرب، وعن فقدان مكانة الغرب، وبخاصة أمريكا، في العالم، وعن توترات اجتماعية ودينية تكاد يختنق بها الاستقرار في عدد من تلك الدول وأنه لا أمل في وقف هذا التدهور إلا بالتسليم لقيادات روحية ldquo;صهيونيةrdquo; سواء كانت مسيحية أو يهودية بحجة أنها الأقدر دون غيرها على تحقيق ldquo;خلاصrdquo; شعوب الغرب وإنقاذها من بؤس ما تتردى إليه.
أسمع من كثيرين في منطقتنا، وأيضاً في الغرب، عن أن الكتابة بموضوعية في أي قضية تتعلق باليهود في الشتات أو في ldquo;إسرائيلrdquo; أو بالصهيونية والسياسات ldquo;الإسرائيليةrdquo; في الأراضي المحتلة وخارجها، كالمشي على الشوك يؤذي وفي أحيان يهلك. يقولون إن أي كتابات تشم فيها كتائب الجهاد الصهيوني المنتشرة في العالم رائحة انتقاد لشخصيات سياسية تصادف أنها يهودية أو لسياسات ldquo;إسرائيليةrdquo;، أو رائحة شائعة أو خبر عن نفوذ سياسي متصاعد لقوى الضغط الصهيوني، أو رائحة اعتراض على تدخل ldquo;إسرائيلrdquo; أو صهاينة في شأن لا يخص مباشرة ldquo;إسرائيلrdquo; أو اليهود، كلها كتابات معرضة للاتهام بالعداء للسامية، حتى لو كان كاتبوها يهوداً.
تابعنا، باهتمام، الحملة التي شنتها الجماعة الصهيونية في الولايات المتحدة في أعقاب تفجير برجي نيويورك على ldquo;مدرسة الشرق الأوسطrdquo; في الأكاديمية الأمريكية، وهي الحملة التي قادها المدعو كرامر وجعلها حرباً لا هوادة فيها ضد المعاهد والأقسام التي تدرس الإسلام ومذاهبه والصراع العربي ldquo;الإسرائيليrdquo; ومشكلات الشرق الأوسط، وكان الهدف بطبيعة الحال قمع الأساتذة الذين يناقشون بموضوعية أو بتعاطف هذه القضايا والمشكلات.
وأظن أن الحملة نجحت صهيونياً بمعنى أنها سلطت الضوء الأمني على مراكز الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية، فتقلصت الاعتمادات المالية والمنح والمعونات النقدية الفيدرالي منها والخاص، وتأثر سلباً سيل الطلبة العرب والمسلمين طالبي العلم في أمريكا، والغرب عموماً. وغطت الأكاديمية الأمريكية سحابة من الشك في نوايا الأساتذة والطلبة من أصول شرق أوسطية، وساد التوتر ساحات الجامعات الأمريكية ونشطت العناصر الصهيونية في الجامعات تثير الاضطراب مستخدمة أساليب أقرب ما تكون إلى ldquo;الإرهابrdquo; الفكري ومحاكم التفتيش، مثل عرقلة تنظيم محاضرات وندوات، وابتزاز الباحثين ومؤلفي الكتب. وتخويف الجهات التي تفكر في تنظيم مؤتمرات أو عقد حلقات نقاش تناقش الأوضاع المتميزة لجماعات الضغط وrdquo;إسرائيلrdquo; في أمريكا مثلما حدث مع الدبلوماسيين البولنديين في نيويورك الذين فكروا في دعوة الأستاذين اللذين اشتركا في تأليف دراسة عن نفوذ اللوبي ldquo;الإسرائيليrdquo;. وقع شيء مماثل مع المسؤولين عن جامعة كولومبيا عندما توجهوا بالدعوة إلى الرئيس الإيراني لإلقاء محاضرة في الجامعة. وكانت النتيجة خضوع رئيس الجامعة بشكل مهين لحملة الضغوط والابتزاز فأساء إلى سمعة الجامعة الأكاديمية والتاريخية حين ألقى خطاباً غير ودي أمام الضيف نقض به تقاليد الجامعة وآدابها.
أتساءل أحياناً: هل من صلة بين صعود هذا الإرهاب الفكري الذي تفرضه الجماعات المعادية للعرب في جامعات الغرب والسرعة التي تجري بها ldquo;عسكرةrdquo; هذه الجامعات، حيث صار عدد كبير منها يخضع لرقابة أجهزة أمن مزودة بأسلحة نارية وأعداد غفيرة من الجنود والضباط؟ بمعنى آخر هل من صلة بين نشر الرعب في صفوف المواطنين في الغرب بحجة الاستعداد لمواجهة الإرهاب وبين فرض الحصار الفكري والإرهاب الصهيوني داخل قاعات الدرس ومعاقل الفكر في الغرب، وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية؟
في اعتقادي، أن هذا الخوف الذي يهيمن الآن على مجتمعات الرأي والعلم والأوساط الأكاديمية والسياسية في الغرب يدفع نحو مواجهة أتوقع أن تزداد حدة في السنوات القادمة إذ يتفاقم الشعور بالانفصام الأكاديمي بين أنصار حرية التفكير والبحث وبين حلف المتشددين من المحافظين الجدد والطلائع الصهيونية ومؤسسات الحرب ضد الإرهاب.
أضف إلى هذا الشعور المتفاقم عنصرين ليسا أقل أهمية، أولهما أن قطاعات أساسية في الطبقة الحاكمة لم تعد تخفي جانباً عنصرياً في سياستها تجاه الأقلية غير اليهودية، والتصريح بغير خجل أو مواربة بأن الديمقراطية في ldquo;إسرائيلrdquo; مخصصة لليهود فقط، يشجعها أن الغرب نفسه يعيد النظر في مضمون الديمقراطية على ضوء انتشار مفاهيم جديدة تتعلق بالأمن والإرهاب وrdquo;الفاشية الإسلاميةrdquo; وغيرها. أما العنصر الثاني فيتعلق بحالة الخوف المبالغ فيه، والمصطنع أحياناً، مما يعرف بالزحف الإسلامي وهجرة الشرقيين إلى الغرب.
من ناحية أخرى، يزداد اقتناع القيادات ldquo;الإسرائيليةrdquo; بأن الفرصة سانحة للإسراع باستكمال تنفيذ المشروع الصهيوني في فلسطين. إذ بينما يسود في أوساط صانعي الرأي في الغرب نوع من الخوف من ردود فعل الجماعات الصهيونية على انتقاد ldquo;إسرائيلrdquo; والنفوذ اليهودي، يسود في العالم العربي ldquo;مزاج تفريطيrdquo; يمهد، إن استمر وتعمق، لأوضاع ldquo;انفراطيةrdquo;. ولم يعد خافياً أن بعض هذه الأوضاع تجاوز مرحلة التوقع وصولا إلى حالة حروب أهلية وتجزيئية قائمة فعلاً، وكلاهما ldquo;التفريط والانفراطrdquo;، يخدمان أمن ldquo;إسرائيلrdquo; ويحققان هدف خروجها من الصراع متميزة ومهيمنة.
من ناحية ثالثة، نجحت ldquo;إسرائيلrdquo; في أن تكسب إلى صفها حليفاً قوياً جديداً في الغرب بوصول ساركوزي وجماعته إلى الحكم في فرنسا. إذ ظهر واضحاً أن مسيرة الرئيس الفرنسي ساركوزي على طريق ldquo;أمركة فرنساrdquo; أخلاقياً واجتماعياً تحمل في طياتها أهم سلبيات هذه الأمركة، وهي الانحياز بميل عنصري لrdquo;إسرائيلrdquo;، وبالتالي كسب كراهية شعوب كثيرة لفرنسا.
ما الحل؟ كيف تتحرر شعوب وحكومات دول عديدة من ضغوط القوى الصهيونية المهيمنة في الغرب؟ كيف يمكن إصلاح ldquo;الوضع اليهوديrdquo; في العالم فيكون لليهود كأفراد مكانتهم المتميزة إن أبدعوا فناً وثقافة وتقدماً، ويتعرضون للعقاب كغيرهم من البشر إن طغوا وتكبروا أو ldquo;أرهبواrdquo; الآخرين؟ ستأتي الإجابة ذات يوم يقترب بسرعة بسبب ما يتراكم من مبالغات تمارسها قوى الصهيونية ودولة ldquo;إسرائيلrdquo; وتبادلها الاعتماد مع دولة عظمى سياساتها الخارجية مكروهة في معظم أنحاء العالم.
أعرف مقدماً أن هذه القوى الصهيونية المهيمنة والمتعاطفين معها سيعتبرون مقالي هذا من نوع المقالات المناهضة للسامية ولن أدافع أو أرد سلفاً. بل أعود وأؤكد أننا، وأقصد الملايين في أنحاء كثيرة من العالم، سئمنا حروب ldquo;إسرائيلrdquo; في الشرق الأوسط، وسئمنا سموم الإعلام الصهيوني أو الخاضع للنفوذ الصهيوني ضد الإسلام وتقاليد الشرق وطموحات العرب المشروعة. عشنا قرناً كاملا وعاشت من بيننا أجيال أربعة في ظل خوف دائم وعدم استقرار بسبب الحصار الذي تفرضه قوى التدخل السريع الصهيونية ضد الفلسطينيين ومصالح العرب والمسلمين في كل مكان.
نتصرف أحياناً مع ldquo;إسرائيلrdquo; وقيادات أمريكا اليهودية كما لو كان أمر الشعوب وحكامها قد استقر لليهود، أو أن العالم يعيش عصر ldquo;السلم اليهوديrdquo; بعد تدهور السلم الأمريكي واقتراب عصره من نهايته. أقول هذا على رنين كلمات الرئيس بوش التي نطق بها خلال زيارته للمنطقة وأصداء مشروعه عن ldquo;إسرائيل الأكبرrdquo; المهيمنة على معظم فلسطين باسم الواقع، وما على الجيران العرب إلا مد أيديهم إلى ldquo;إسرائيلrdquo; تشجيعاً ومحبة.
- آخر تحديث :
التعليقات