الشيخ حسن الصفار
من المشاكل الملحوظة في التعامل مع التراث ضمن دائرة النصوص الدينية والأحداث التاريخية، مشكلة التعامل الانتقائي، بالتركيز على بعض النصوص والأحداث وابرازها بشكل مضخّّم، مع تجاهل نصوص وأحداث أخرى والمرور عليها مرور الكرام، وذلك تبعاً للهوى والميول المذهبية أو السياسية، من غير تحكيم للضوابط العلمية والموضوعية.
فقد تجد عند هذه الطائفة أو تلك اهتماماً كبيراً بنص من النصوص أو حدث من الأحداث، لا يتميز عن كثير من أشباهه ونظائره، الا في خدمته لتوجه من توجهات تلك الطائفة، بينما يُغض الطرف ويهمل نص أو حدث آخر، تتوافر فيه العديد من المقومات الذاتية، التي تستوجب التركيز والاهتمام.
ان الموضوعية تقتضي أن تكون درجة الاهتمام بأي نص أو حدث، تابعة لمقاييس وضوابط علمية، تأخذ بعين الاعتبار مستوى الصحة والوثاقة في النقل، وموقعية ذلك الأثر المنقول في منظومة الفكر والتشريع الديني، وضمن سياق الوقائع التاريخية.
وفي قصة مولد الامام الحسين بن علي سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وريحانته، نجد ظاهرة فريدة من نوعها، لم تأخذ حقها من الاهتمام والتركيز في أوساط غالبية المسلمين المهتمين بقضايا النصوص والتاريخ.
ظاهرة فريدة
تشير نصوص عديدة الى ظاهرة فريدة من نوعها، رافقت ولادة الامام الحسين، ونشأته في أحضان جده المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي استحضار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لحادثة مقتل الحسين وشهادته، واعلانه التأثر والتألم لذلك.
ففي استقبال أي مولود، عادة ما تسود العائلة أجواء الفرح والسرور، وتغمرهم حالة الأمل والتفاؤل بمستقبل الوليد الجديد، ولا شك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ينتظر في لهفة وشوق، ما وعده الله تعالى من نسل مبارك وذرية طيبة تكون امتدادا لوجوده الرسالي، حيث كان عتاة قريش يعيّرونه بأنه أبتر منقطع الذرية والنسل، حتى أنزل الله تعالى عليه سورة الكوثر: (اًنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلًّ لًرَبًّكَ وَانْحَرْ اًنَّ شَانًئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ) فان أحد تفاسير الكوثر الذي أعطاه الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذرية والنسل. قال الفخر الرازي في التفسير الكبير (ج32، ص124): laquo;والقول الثالث: الكوثر أولاده (صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا لأن هذه السورة انما نزلت رداً على من عابه بعدم الأولادraquo;.
ومقتضى ذلك أن يظهر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بشره وسروره بولادة سبطه الحسين، أما ما تتحدث به الروايات الواردة من ابداء الرسول لحزنه على ما سيصيب ولده الحسين في موارد عديدة، وأمام أشخاص متعددين، فهو ظاهرة فريدة من نوعها، لم يحدث مثله من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي تستحق الدراسة والتأمل.
نماذج من النصوص
تحدثت روايات عديدة عن هذه الظاهرة الفريدة، ونقلتها مختلف مصادر الحديث المعتبرة عند المسلمين، وأكد المحققون في علم الحديث صحة سندها، وفي ما يلي بعض النماذج منها:
ـ1 في المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري، حديث رقم 4818 بسنده عن أم الفضل بنت الحارث أنها دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول الله، اني رأيت حلماً منكراً الليلة، قال: laquo;ما هو؟raquo;، قالت: انه شديد، قال: laquo;ما هو؟raquo;، قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): laquo;رأيت خيراً تلد فاطمة ان شاء الله غلاماً فيكون في حجركraquo; فولدت فاطمة الحسين فكان في حجري، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فدخلت يوماً الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فوضعته في حجره، ثم حانت مني التفاتة، فاذا عينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تهريقان من الدموع، قالت: فقلت يا نبي الله بأبي أنت وأمي ما لك؟ قال: laquo;أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا فقلت: هذا! فقال: (نعم) وأتاني بتربة من تربته حمراءraquo;. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
ـ2 أورد الشيخ محمد ناصر الدين الألباني الحديث السابق في سلسلة أحاديثه الصحيحة تحت رقم 821 وعلق عليه بقوله: له شواهد عديدة تشهد لصحته، منها ما عند أحمد بن حنبل (294/6) حدثنا وكيع قال: حدثني عبدالله بن سعيد عن أبيه عن عائشة أو أم سلمة، أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لاحداهما: laquo;لقد دخل عليّ البيت مَلَك لم يدخل علي قبلها، فقال لي: ان ابنك هذا: حسين مقتول، وان شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها، قال: فأخرج تربة حمراءraquo;.
قال الألباني: وهذا اسناد صحيح على شرط الشيخين، وقال الهيثمي (187/9) (رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح).
ـ3 أخرج الامام أحمد بن حنبل في مسنده، حديث رقم 648، بسنده عن عبد الله بن نُجي، عن أبيه، أنه سار مع علي، وكان صاحب مطهرته، فلما حاذى نينوى وهو منطلق الى صفين، فنادى علي: اصبر أبا عبد الله، اصبر أبا عبد الله بشط الفرات، قلت وماذا؟ قال: دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم وعيناه تفيضان، قلت: يا نبي الله أغضبك أحد، ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: بل قام من عندي جبريل قبل، فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات، قال: فقال: هل لك الى أن أُشًمَّكَ من تربته؟ قال: قلت: نعم، فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا.
وقفة تأمل
اعتقادنا كمسلمين في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن أعماله وأقواله، لا يصدر شيء منها اعتباطاً وعبثاً، ولا يكون منطلقاً من عاطفة وانفعال، فاذا ما وجدنا كتب التاريخ، ومصادر الحديث، تخبرنا بأسانيد صحيحة لا يرقى اليها الشك ومن طرق متعددة، لا تنحصر في دائرة مذهب معين. وكلها تحكي لنا عن حدث مميز، صدر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، تجاه الامام الحسين ولم يتكرر منه (صلى الله عليه وآله وسلم) مثله مع أي شخص آخر، وأن هذه الممارسة النبوية الخاصة قد تكررت في مواقف عديدة، وأمام أشخاص مختلفين، مما يدل على قصد الاعلان والاعلام عنها، تُرى ألاّ يعني ذلك أن هناك استهدافاً معيناً وراء هذه الظاهرة العجيبة؟ لماذا يتحدث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن مقتل سبطه الحسين بعد خمسين عاماً وهو ـ الحسين ـ في الأيام الأولى لولادته؟ ولماذا يبدي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تألمه وحزنه لحدث سيحصل بعد أكثر من نصف قرن؟ ثم لماذا هذا الاهتمام من قبل الله تعالى باخبار نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك، وتحديد الأرض التي سيجري فيها الحدث، واعطائه قبضة من ترابها؟
انه لا يصح المرور على هذه الظاهرة مرور الكرام، ولا ينبغي تجاهلها عند من يقدّس سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويعتقد حُجَّية أقواله وأفعاله، بل لا بد من البحث عن مدلولات هذه القضية، والتأمل في أبعادها ومعانيها.
أهمية الشخص والحدث
يتضح بكل جلاء من خلال الروايات والنصوص الواردة عن اخباره (صلى الله عليه وآله وسلم) بمقتل سبطه الحسين، الموقعية الخاصة للامام الحسين عند جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعند الله تعالى، والاهتمام الكبير بحادثة قتل الحسين، ان الروايات تشير الى اهتمام الهي بابلاغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) موضوع مقتل الحسين، عبر ملائكة عظام، وباحضار تربة من أرض مصرع الحسين كربلاء، يراها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويشمها.
كذلك يتبين من مجموع الروايات الواردة حول الموضوع، اهتمام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) باخبار الآخرين بذلك، مع اظهاره (صلى الله عليه وآله وسلم) للحزن والتألم، مما يدل على عمق محبته (صلى الله عليه وآله وسلم) للحسين، وشدة وقع مصيبة الحسين على قلبه.
واذا كانت هذه الحادثة بهذا المستوى من الأهمية عند الله تعالى وعند رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، من قبل وقوعها، ألا تستحق أن يهتم بها المسلمون بعد وقوعها؟
انه لا يصح النظر الى حادثة كربلاء على أنها صراع سياسي على الحكم والسلطة، ولا معركة شخصية بين الحسين ويزيد، ولا مجرد خلاف نشب بين أطراف من السلف لا شأن للأجيال اللاحقة به.
انه لو كان كذلك، لما حظي الأمر بهذا الاهتمام من قبل الوحي، ولا استدعى هذا التفاعل الكبير من قبل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).
فالمسألة أعمق من أن ينظر اليها بهذه الطريقة السطحية الساذجة، انها ترتبط بحفظ مكانة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأمة، وبموقعية أهل بيته الذين يشكلون امتداده الرسالي،الذين طالما أوصى الأمة بحبهم وأداء حقوقهم، كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أورده مسلم في صحيحه (حديث رقم 2408): laquo;وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتيraquo;.
كما ترتبط المسألة بموقف الأمة تجاه الظلم والانحراف الذي بلغ أوجه وذروته بمأساة أهل البيت في كربلاء.
التعليقات