رغيد الصلح

حتى الآن لا يزال لبنان laquo;مرشحاًraquo; للانضمام الى عضوية النادي العالمي للدول الفاشلة الذي يضم عشرين دولة من دول العالم. عضوية هذا النادي هي laquo;امتيازraquo; تحصل عليه الدول التي لا تعود قادرة على الاضطلاع بأي مهمة من مهام الدولة الرئيسية مثل حفظ الامن وتوزيع الثروات وتحقيق التنمية. وهذه الحال تكون عادة حصيلة 12 من العوامل المختلفة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كما يحددها laquo;مؤشر الدول الفاشلةraquo;. من أهم هذه المؤشرات والعوامل استفحال الصراع بين فرقاء النخبة السياسية، واستبداد الاحقاد ومشاعر الدونية والقهر والنزعات الثأرية بالجماعات التي يتكون منها المجتمع، وتفاقم التدخل الخارجي والاستغلالي في شؤون الدولة الفاشلة. اذا استمرت الازمة على حالها، فإن الدولة تتحول من مرشح الى عضو اصيل وركن ممتاز من اعضاء واركان نادي الدول الفاشلة في العالم.

احتل لبنان، حتى صدور مؤشر الدول الفاشلة لعام 2007، مرتبة الدولة الثامنة والعشرين، اي ان عليه ان يتخطى ثمانية دول منها ليبيريا والكونغو وسيري لانكا حتى laquo;يحظىraquo; بعضوية هذا النادي. الاحداث اللبنانية الاخيرة تدل على اننا قد لا نكون بعيدين عن مثل هذا المآل. فلبنان يكاد يصبح مقبرة للديبلوماسية الدولية والعربية والى عقدة نفسية لدى السعاة المحليين والاقليميين والدوليين الذين املوا وحاولوا مساعدة لبنان على الخروج من الازمة. العدد الاكبر من المحللين والمعنيين بالشأن اللبناني يقول ان الازمة ستبقى معنا لمدة اسابيع. البعض الآخر يقول ولماذا لا تبقى لاشهر ولسنوات؟ الرئيس المصري حسني مبارك حذر اللبنانيين من هذا الاستمرار لانه سوف يدفع بالعرب وبالمجتمع الدولي الى نسيان المسألة اللبنانية وترك اللبنانيين يقلعون شوكهم بيدهم. استمرار الازمة حتى لايام يضع لبنان على شفير اخطار كثيرة. العماد ميشال سليمان حذر منها عندما شبه الوضع بالقنبلة الموقوتة. اللبنانيون، او اكثرهم على الاقل، لا يستطيع، وقد عانى من تجارب مريرة، تجاهل هذه التنبؤات والتحذيرات. كل ذلك يدفع الكثيرين الى التساؤل: هل يجوز ان يتحول التنافس حول انتخاب رئيس الى سبب لخراب لبنان؟ هل من المعقول ان يتحول الصراع على المقاعد الوزارية الى عقدة تضع اللبنانيين على طريق حرب اهلية؟ وهل نتقاتل على الشراكة في حين اننا مهددون بفقدان laquo;الشركةraquo;؟

هذه اسئلة يطرحها لبنانيون عرفوا شرور الاقتتال، ويعرفون ان عودة الاستقرار تضع لبنان على طريق نهضة كبرى على كل صعيد. انها اسئلة تعبر عن مخاوف حقيقية وتطلعات مشروعة ينبغي ان يأخذها السياسيون بعين الاعتبار فيعجلوا في الوصول الى حلول للازمة وان يبذلوا كل جهد لكي تبقى الازمة، ما دامت مستمرة، في اطارها السياسي ولكي يضعوا حدا لمسلسل الاغتيالات وأعمال الإجرام السياسي. كل ذلك صحيح وفي محله. ولكن الصحيح ايضا ان الازمة المفتوحة اليوم تمس قضايا جوهرية وخلافية. بعض هذه القضايا يشمل مسألة هوية اللبنانيين وعلاقاتهم مع الخارج وخاصة مع المنطقة المحيطة بهم، والبعض الآخر يتعلق بالنظام السياسي ومسألة الشراكة بين الفئات التي يتكون منها لبنان.

هذه القضايا لم تتغير منذ ان نشأت الدولة اللبنانية، كما كانت وراء العديد من الصراعات والازمات السابقة. ولئن ادرك البعض سر العلاقة بينها وبين هذه الازمات، ونمط الحلول التي قدمت من اجل التغلب على الاشكاليات التي اثارتها هوية الشعب وطابع النظام، فان البعض الآخر اخطأ عندما ركز على العامل الاول دون الثاني. وقع لبنانيون في هذا الخطأ، على سبيل المثال، عندما تصوروا ان laquo;الميثاق الوطنيraquo; كان وطنيا فحسب، بينما كان في الحقيقة ميثاقا وطنيا وديموقراطيا. الميثاق عالج الشأن الوطني عندما قرر ان لبنان عربي الوجه، وعندما كرس التخلي عن الحماية الفرنسية وعن الوحدة السورية. ولكن الصحيح ايضا ان الميثاق كان انجازا ديموقراطيا عندما وضع اسسا للشراكة بين اللبنانيين.

تلك الاسس التي تم الاتفاق عليها بين الزعماء الاستقلاليين اللبنانيين وبدعم من دول المشرق العربية وضعت حداً، ولو الى حين، للظاهرة التي لبثت اكبر مصدر للازمات وللتصدعات التي عانى منها لبنان، ألا وهي النزعة الاقصائية. وتتمثل هذه الظاهرة في اصرار النخبة الحاكمة على حرمان قطاع واسع من الشعب من المساهمة في الحياة العامة وفي مفاصلها الخمسة التالية: المشاركة الكاملة في العملية السياسية، التمثيل في مراكز صنع القرار، التأثير على القرارات والسياسات الحكومية، اعتماد سياسات تؤثر على مصير الجماعات التي يتكون منها المجتمع، القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر على المساواة بين المواطنين.

في اكثر الاحيان تبرز هذه الظاهرة في الانظمة المطلقة والاستبدادية التي يتاح فيها لنخبة سياسية حاكمة الاستئثار بالسلطة استئثارا كاملا. الا ان الاقصائية تطبق ايضا في الانظمة الديموقراطية، وهي تعتبر واحدة من اهم التحديات التي تواجه النظم الديموقراطية بما فيها المتقدمة منها. ويعتبر الكثيرون من علماء الاجتماع المعنيين بالتحولات الديموقراطية ان هذه التحولات تحقق نجاحا بمقدار ما تنجح في الحد من هذه الظاهرة وتسمح لاكبر عدد من الافراد والجماعات بدخول الحياة العامة ومراكز اتخاذ القرار والتأثير عليها.

هذه التحولات لا تتم عادة بتأثير هندسة اجتماعية وسياسية واعية تمارسها النخب السياسية، او بدفع من قرار ارادي تتخذه. بالعكس، في اغلب الحالات تتخلى النخب السياسية عن الاقصائية عندما تصطدم بصعوبات لا تملك القدرة على مجابهتها لوحدها، او عندما يشتد التباين بين اطراف النخبة السياسية ويتحول الى صراع حاد. في الحالين تكتشف اطراف اصلاحية من هذه النخب انه من المناسب مد يدها الى اطراف مجتمعية ابقيت خارج الحياة العامة فتستعين بها من اجل مواجهة التحديات او من اجل التغلب على المنافسين. هذا التعاون يفتح الباب امام ديمومة مشاركة الاطراف التي تم اقصاؤها عن الحياة العامة، وامام ادخال المزيد من الشرائح الاجتماعية والافراد حلبة التنافس السياسي. فعندما يستعين فصيل من فصائل النخبة السياسية بفريق من laquo;المقصيينraquo;، فإنه يدفع بالفصيل المنافس له الى ولوج تحالفات مع فرقاء آخرين من الذين طبقت بحقهم سياسة الاقصاء والتهميش. هكذا يتحول النظام السياسي النخبوي والمغلق الى نظام تعددي وديموقراطي. فهل سار النظام السياسي عندنا على هذا الطريق؟

بالعودة الى التاريخ نجد ان سياسة الاقصاء رافقت نشوء الدولة اللبنانية واستمرت مع استمرارها. طبقت بدقة وصرامة خلال مرحلتي الانتداب الفرنسي والسيطرة السورية. وطبقت سياسة الاقصاء ايضا وان بأشكال مخففة ومتفاوتة بين 1943 و1989. خلال هذه المراحل كلها، كثيرا ما حدث ان شعرت بعض اجنحة النخبة الحاكمة عندنا، كما حدث في الديموقراطيات المتقدمة، بضرورة مد يدها الى قوى كانت تقف خارج النخبة السياسية والتعاون معها بقصد تمكين البلاد من التغلب على تحديات كبرى، او بقصد تعزيز وضعها في لعبة التنافس على الحكم، او الاثنين معا. وبدافع من هذا الشعور، سعت النخب الحاكمة او بعض اطرافها الى الاستعانة بالمقصيين والمهمشين من اجل التغلب على التحديات او على الاطراف المنافسة. لماذا اذن لم يقد ذلك المنحى الى توطيد الديموقراطية اللبنانية والوجه الديموقراطي للميثاق اللبناني كما حدث في دول ومجتمعات اخرى عندما قررت النخب الحاكمة فتح باب المشاركة امام جماعات (اثنية، طبقية، دينية الخ...) واسعة من المواطنين؟ هناك، في تقديري، سببان لعبا دورا في الحيلولة دون حدوث مثل هذا التطور المرغوب:

الاول: ان النخب المتصارعة كانت تفضل، في اكثر الحالات، ان تستعين بقوى من خارج المجتمع اللبناني، من اجل مجابهة التحديات او من اجل التغلب على المنافسين، بدلا من الاستعانة بقوى داخلية صاعدة مما يفسح المجال امام توسيع باب المشاركة امام المواطنين وتأصيل وتوطيد النظام الديموقراطي. وفي كثير من الحالات رمت الاستعانة بالقوى الخارجية الى تثبيت واقع الاقصاء تحديدا، والى منع بعض الجماعات المحلية من المشاركة الكاملة في الحياة السياسية.

السبب الثاني: ان العديد من اطراف النخبة الحاكمة اللبنانية التي سعت الى الاستعانة بجماعات كانت مقصية ومهمشة، كانت تفضل، لاسباب تاريخية ومجتمعية، الاستعانة بالمقصيين والمهمشين الذين ينتمون الى الطائفة نفسها. هذا التوجه كان من شأنه تقوية العصبية الطائفية والتصارع الطائفي بدل أن ان يؤدي الى تحديث الحياة السياسية على اساس التعددية الحزبية القائمة على الخيار الطوعي والحر الذي يمارسه الافراد والذي يعتبر اساسا من اسس التطور الديموقراطي.

هذان العاملان لا يزالان يؤثران على الحياة السياسية في لبنان. آثارهما اليوم تبرز للعيان اكثر من اي وقت مضى. فلم يسبق للبنان ان شهد مثل ما نشهده اليوم من اصطفاف مع قوى الخارج. ولم يسبق للبنان ان شهد ما نشهده اليوم من تسعير للصراع الطائفي ومن تغليب له على الانتماء الوطني. واذ يقارن البعض بين حال اليوم وحال 1943، كما يحب ان يفعل، فإن عليه ان يأخذ في الاعتبار عاملاً رئيسياً. استقل لبنان عندما تمكن بعض اطراف النخبة الحاكمة من عقد تحالف استقلالي الهدف والطابع بعيدا عن الهيمنة المباشرة للاطراف الدولية وعندما تمكنت هذه الاطراف من فتح بوابات العبور بين الطوائف وكسر الحواجز التي اقيمت بينها. لبنان اليوم، او بالأحرى نخبه السياسية المتصارعة، تسير بعيدا عن هذه الحال، اي الى المزيد من الالتحاق بالاطراف الدولية المتصارعة والى المزيد من الانغلاق الطائفي والمذهبي.