ماجد كيالي

ما تفعله إسرائيل في قطاع غزة هو حرب بكل معنى الكلمة، بل إنها حرب عمياء، وحشية وعدوانية، حيث يقوم الجيش الإسرائيلي خلالها، باستخدام شتى صنوف الأسلحة، للقتل والتخريب والإرهاب، مستهدفاً الفلسطينيين الآمنين، في بيوتهم وممتلكاتهم وبناهم التحتية، من دون تمييز بين مدني وعسكري.

الأنكى أن قادة إسرائيل يتباهون علناً بأنهم قتلوا في العامين الماضيين (2006 ـ 2007) حوالي ألف من الفلسطينيين! في وقت تراجعت فيه كثيراً وتيرة عمليات المقاومة المسلحة، إن لم تكن توقفت تماماً (باستثناء عمليات القصف الصاروخي)، حتى إن هؤلاء القادة باتوا يعتبرون العام 2007 بأنه العام الأهدأ بالنسبة لإسرائيل، حيث لم يقتل فيه بنتيجة عمليات المقاومة سوى 11 من الإسرائيليين (و24 عام 2006 و54 عام 2005).

من ذلك يتبيّن بأن إسرائيل لم تشنّ حربها ضد قطاع غزة، بسبب المقاومة أو بسبب من إطلاق الفلسطينيين لقذائف صاروخية على المناطق المتاخمة للقطاع، فقط، فثمة أسباب أخرى، أبعد من ذلك، يتمثّل أهمها في التالي:

أولاً، يريد رئيس الحكومة أيهود اولمرت، عبر هذه الحرب، أن يوجه رسالة إلى المجتمع الإسرائيلي تفيد بأنه مازال قادراً على الحفاظ على أمن إسرائيل، وأنه وإن سار في عملية التسوية إلا أن الأولوية ستبقى للأمن، وأنه لن يتنازل للفلسطينيين ولا لغيرهم في هذا المجال.

والقصد هنا أن اولمرت يريد إنقاذ حكومته بالمزايدة على الأطراف اليمينية التي تهاجمه، بدعوى انه سيتنازل للفلسطينيين في المفاوضات، لمجرد قبوله مناقشة قضايا القدس والحدود والمستوطنات واللاجئين معهم. ومعلوم أن هذا الوضع دفع ليبرمان، (زعيم حزب laquo;إسرائيل بيتناraquo;)، لتقديم استقالته من الحكومة، ويخشى اولمرت من قيام حزب شاس (لليهود المتدينين الشرقيين) بمثل هذه الخطوة، الأمر الذي قد يهدد زعامته لحزبه laquo;كاديماraquo;، ويعرّض حكومته للتفكّك، وربما للجوء لانتخابات مبكرة.

ثانياً، يحاول ايهود أولمرت من هذا التصعيد الضغط على الفلسطينيين عموماً، وتصعيب الوضع عليهم، من النواحي السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، ولا شك أن ما يجري في قطاع غزة سيحرج قيادة السلطة في رام الله، ويضعها في موقف صعب أمام شعبها.

وبالتالي فهو يضعف موقفها التفاوضي، أمام إسرائيل، في حال استمرت في المفاوضات، في مثل تلك الظروف المأساوية. وفي كل الأحوال فإن إسرائيل تريد من هذا الوضع إنهاك المجتمع الفلسطيني واستنزافه تماماً، وإضعاف مكانة القيادة الفلسطينية، في محاولاتها الدائمة لفرض الاملاءات السياسية عليها، بشأن قضايا عملية التسوية.

ثالثاً، تعتقد حكومة اولمرت بأن الظروف والمناخات الدولية، وربما الإقليمية أيضاً، تسهّل على إسرائيل الاستفراد بالفلسطينيين في قطاع غزة، بدعوى استيلاء حركة حماس على هذا القطاع، بصورة غير شرعية، وبدعوى وقف العنف والدفاع عن النفس في وجه الهجمات الصاروخية التي تأتي من القطاع. هكذا فإن إسرائيل لم تعد تكتفي بمجرد فرض الحصار المشدّد على قطاع غزة، وتقنين المواد الحيوية الضرورية التي تصل إليه.

وإنما هي باتت ترى بأن الفرصة سانحة لها لشن حرب استنزاف متدرجة للقضاء على نشطاء المقاومة، في القطاع، وإرهاق laquo;حماسraquo;، ووضعها في زاوية حرجة أمام نفسها وأمام شعبها، لجهة عدم قدرتها على الرد على الضربات الإسرائيلية.

ومن جهة عدم استطاعتها تأمين متطلبات العيش الآمن والكريم لأهالي القطاع، وأيضاً لجهة عدم رغبتها بتغيير المعادلات السياسية القائمة اليوم، والتي توفّر لإسرائيل الذريعة لشن هجماتها على القطاع، إن بتسليمها بضرورة وقف الهجمات الصاروخية، أو بإعادة أوضاع القطاع إلى ما قبل يونيو الماضي، أي إلى الشرعية.

واضح من طبيعة العمليات الإسرائيلية، ومن طبيعة السجالات الدائرة في دوائر صنع القرار، بأن إسرائيل تستبعد، على الأقل في المعطيات الحالية، خيار القيام بشن حملة عسكرية برية واسعة، كما تستبعد خيار معاودة احتلال قطاع غزة، مع ما يعنيه ذلك من العيش مع أكثر من مليون فلسطيني وتحمل المسؤولية عن إدارة حياتهم. ومعنى ذلك أن إسرائيل اعتمدت خيار حرب الاستنزاف المتدحرجة، بعد أن قامت بعزل القطاع عن محيطه تماماً، وصعّبت حياة سكانه، بإغلاقها كل معابره الخارجية، وباعتمادها سياسة تقنين.

وربما قطع، إمدادات الكهرباء والمحروقات والمواد التموينية، بدعوى اعتبار القطاع بمثابة منطقة عدوة. علماً بأن إسرائيل تزود قطاع غزة اليوم بما يعادل 80 في المئة من التيار الكهربائي و100 في المئة من الوقود و70 في المئة من الماء و100 في المئة من الوقود الذي يشغل المحركات الكهربائية التي تشغل بدورها آليات رفع الماء من الآبار الارتوازية.

وثمة حديث يدور بشأن اعتزام إسرائيل وضع كمائن وحواجز لخلق منطقة نار محرمة بعمق 12كم من داخل القطاع، وبشأن حفر قناة مائية على طول حدود القطاع مع مصر، للحد من تهريب السلاح وحفر الأنفاق.

الآن، وبغض النظر عن المآرب السياسية، والسياسات العدوانية التي تنتهجها إسرائيل ضد الفلسطينيين، فإن الفلسطينيين معنيون بإثارة الجدل فيما بينهم بشأن الانطباعات السائدة دولياً حول قيام الكيان الفلسطيني، وبشأن وضعية قطاع غزة في العملية الوطنية بعد انسحاب إسرائيل منه، وبشأن جدوى عمليات القصف الصاروخي للمناطق الإسرائيلية في منطقة غلاف غزة.

وفي حساب الصراع بالصواريخ بين الفلسطينيين والإسرائيليين مثلاً، والذي كان أحد سمات الانتفاضة، التي اندلعت في أواخر العام 2000، فثمة بضع مئات، من القذائف الصاروخية أطلقها الفلسطينيون، في حين أن إسرائيل أطلقت بالمقابل ألوف القذائف الصاروخية، من البر والبحر والجو، على مدن القطاع، كما نشّطت عمليات الاغتيال والقتل الجماعي ضد الفلسطينيين.

وفي ذلك تتبدّى لنا إحدى المعضلات المزمنة للكفاح الفلسطيني، ليس فقط لجهة التفوق الفادح بالسلاح للجانب الإسرائيلي، وإنما أيضاً لجهة خسائر الفلسطينيين البشرية، وفي الجانب السياسي، كما في إدارة الصراع السياسي ضد إسرائيل.

وإذا تجاوزنا الخسائر البشرية فإن عمليات القصف الصاروخي، ومثلها العمليات التفجيرية في المدن الإسرائيلية، أدت إلى تكبيد الفلسطينيين خسائر فادحة على المستوى السياسي، وبيّنت عدم إدراكهم للمعطيات الدولية والإقليمية المحيطة بهم وتخبّطهم ومزاجياتهم وتنافساتهم، في إدارة صراعهم مع عدوهم، على رغم تأثيراتها القوية على الإسرائيليين.

طبعاً ثمة من يجادل بأن إسرائيل كانت ستقوم بما تقوم به، بوجود عمليات الصواريخ وغيرها، أم من دون ذلك، وهذا صحيح نسبياً، ولكن هذا الاستنتاج لا يحجب حقيقة أن مستوى عمليات القتل والتدمير والحصار الإسرائيلية تزداد وتتصاعد بحسب طبيعة العمليات الفلسطينية، التي تأتي في غالبيتها غير محسوبة الجدوى، ومرهونة بالتنافسات الداخلية، ومن دون ارتباط باستراتيجية سياسية واضحة وممكنة ومتوافق عليها.

ولاشك أن إسرائيل، وهي تشنّ حربها ضد الفلسطينيين، لاسيما في قطاع غزة، تنطلق من عوامل إسناد أهمها:

1 ـ خلافات الفلسطينيين السياسية وتنافساتهم الفصائلية، ولاسيما الخلاف المزمن بين فتح وحماس، وانقسام الحكومة والكيان السياسي إلى قسمين، في رام الله وغزة.

2 ـ عدم وجود استراتيجية سياسية وميدانية متوافق عليها فيما بين الفلسطينيين، بشأن اعتماد المفاوضة والتسوية، أو اعتماد المقاومة، وخصوصاً وفق نمط العمليات التفجيرية وإطلاق الصواريخ.

3 ـ تخلّف إدارة الفلسطينيين لأوضاعهم ولصراعاتهم ضد إسرائيل، ومبالغاتهم بقدراتهم الذاتية.

4 ـ تشوّش قضية الفلسطينيين أمام العالم، بين كونها حركة تحرر أو كياناً منجزاً، كما بين سلوكهم طريق التسوية والمفاوضة، أو طريق المقاومة المسلحة والعمليات التفجيرية والقصف الصاروخي.

5 ـ عدم تقدير الفلسطينيين عموماً، وlaquo;حماسraquo; تحديداً للوضع الخاص لقطاع غزة، إن بالنسبة لمكانته في العملية الوطنية، أو بالنسبة لاعتماديته على إسرائيل في كل الموارد الضرورية، أو بالنسبة للانطباع المتشكل لدى العالم بعد انسحاب إسرائيل منه تماماً، بوجودها العسكري والاستيطاني.

واضح من ذلك أن القيادات الفلسطينية المعنية، لا تقرأ الواقع بصورة صحيحة، على الأغلب، ولا تتوخّى أن تتفهّم المعطيات المحيطة بها تماماً، كما أنها لا تولي الاعتبارات والمخططات الإسرائيلية اهتماماً مناسباً، بقدر ما تصغي لشعاراتها وأهوائها ومزاجياتها واعتباراتها الفصائلية! لكن إلى متى؟ وبأي ثمن؟