لنا الامبراطورية وعليكم أعباؤها!

محمود عوض

من المبكر التنبؤ بمسار الانتخابات التمهيدية التي تجري داخل حزبي السلطة والمعارضة فى أميركا. وبالطبع من المبكر بدرجة أكبر التنبؤ بنتائج الانتخابات الفعلية للرئاسة فى تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. لكن أيا كان هذا أو ذاك فإن جورج بوش يقضي شهوره الأخيرة فى البيت الأبيض. وسواء كان الرئيس التالي الجالس في البيت الأبيض في كانون الثاني (يناير) المقبل ديموقراطيا أو جمهوريا فإن ما مارسه جورج بوش من سياسات طوال ولايتيه الرئاسيتين سيفرض عواقبه على الرئيس الجديد وإدارته لسنوات تالية.

فى الاقتصاد مثلا تسلم جورج بوش السلطة في كانون الثاني (يناير) 2001 والحالة الأميركية مزدهرة والميزانية الأميركية تتمتع بفائض للمرة الاولى منذ فترة طويلة. الآن أصبح الفائض عجزا متزايدا سنة بعد أخرى. وفي المشروع الأخير للميزانية الجديدة التي قدمها جورج بوش يزيد العجز عن 400 بليون دولار، بما جعل هاري ريد زعيم الأغلبية الديموقراطية فى مجلس الشيوخ يصرح بأن laquo;هذه الميزانية الجديدة تعبر عن عدم المسؤولية، وهي مخادعة جدا، إذ أنها تخفي تكاليف الحرب فى العراق وتزيد من الدين الهائل laquo;.

وكان جورج بوش افتتح ولايته الأولى بخطابه أمام مجلسي الكونغرس عن حال الاتحاد في شباط (فبراير) 2001 طارحا نفسه كرئيس عطوف يعبر عن الوسط، مركزا على تحسين التعليم، وقال امام الكونغرس laquo;نحن معا سنغير النغمة السائدة في عاصمة البلاد: نحن معا قادرون على ذلكraquo;، والجملة الأخيرة قالها باللغة الإسبانية. لكن سرعان ما تحول جورج بوش إلى صورة أخرى طارحاً نفسه كرئيس حرب. وهكذا في خطابه التالي عن حال الاتحاد أمام الكونغرس فى سنة 2002 صك شعار laquo;محور الشرraquo; كعدو جديد على أميركا أن تحاربه. وفي السنة التالية ركز خطابه على إعداد الرأي العام الأميركي لغزو العراق. بعدها بسنة كان لا يزال يتحدث عن ضرورة القضاء على عشرات من برامج أسلحة الدمار الشامل. وفي سنة 2005 طرح جورج بوش قائمة طويلة من البرامج لإصلاح الضمان الاجتماعي وضبط الهجرة داخلياً ونشر الحرية حول العالم خارجياً.

لكن في 28 كانون الثاني (يناير) الماضي وقف جورج بوش أمام مجلسي الكونغرس كرئيس شاحب الوجه والسياسات والنتائج بعد أن تحولت إصلاحاته إلى سراب وحربه على الإرهاب إلى طواحين هواء. لقد ركز على تحفيز الاقتصاد بإنفاق استثنائي طارئ يبلغ 145 بليون دولار لعلاج الركود الداخلي، وكذلك على الاستمرار في استراتيجية الاندفاع التي كان أعلنها بشأن العراق. في الشق الاقتصادي لم يكن دور جورج بوش محورياً فالصفقة كانت حصيلة مشاورات بين قادة الحزبين الجمهوري الحاكم والديموقراطي المعارض. وفي الشق العراقي فإن نتائج النجاح أو الفشل لم تعد في يدي الرئيس جورج بوش. وفي المحصلة النهائية فإن ما يجري فى العراق أصبح يتوقف على ما سيمارسه الرئيس الأميركي المقبل من سياسات وأهداف. فقط سيترك جورج بوش لخلفه في البيت الأبيض احتلالا أميركيا للعراق كلفته السنوية بلغت في الموازنة الأخيرة سبعين بليون دولار، بينما تكلفته الشاملة منذ بدايته حتى الآن تجاوزت ما تحملته أميركا من كلفة في كل الحرب العالمية الأولى.

لم تتجاوز مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة الحقيقة قيد أنملة حينما كتبت اخيراً تقول: laquo;إنني أحب أميركا حبا جما وما زلت أعتقد بأن بلدنا هو الأفضل فى العالم. غير أنني أعتقد أيضا أننا أصبحنا نعاني من قصور حاد فى الوعي بالذات. فنحن نقول: لا للأسلحة النووية، في الوقت الذي نمتلك فيه أكبر ترسانة نووية في العالم. ونحن نطلب من الآخرين أن يحترموا القانون وفي الوقت ذاته نتجاهل اتفاقات جنيف. ونطلب من العالم أن يكون إما معنا أو ضدنا، في الوقت الذي تحتل فيه قواتنا بغداد. ونطلب من العالم الحذر من القوة العسكرية الصينية، في الوقت الذي ننفق فيه على قواتنا المسلحة قدر ما ينفقه العالم بأسره على قواته. وندعو العالم للعمل من أجل مستقبل أفضل لأبنائه، في الوقت الذي نتغيب فيه من دون مبرر عن المساهمة في جهود مكافحة التغيير المناخيraquo;.

وقد يرى البعض أن مادلين أولبرايت ربما تكون مدفوعة بانتمائها إلى الحزب الديموقراطي المعارض. لكن استطلاعات الرأي العام في عموم أميركا توضح مدى انحدار التأييد لسياسات جورج بوش من ثمانين في المئة في سنة 2002 إلى مجرد ثلاثين في المئة هذا العام. ومع أن المرشح الجمهوري البارز للرئاسة حاليا جون ماكين يزايد على سياسات جورج بوش الخارجية، إلا أنه في خطابه الرئيسي قبل أيام لم يأت على ذكر جورج بوش مفضلا الدعوة إلى إحياء سياسات الرئيس الجمهوري الراحل رونالد ريغان.

وتابعنا قبل أيام أيضا دعوة شارك فيها 17 من كبار المسؤولين من كلا الحزبين الجمهوري والديموقراطي لمواجهة الانحدار الذي جرى في الحياة السياسية الأميركية خلال ولايتي جورج بوش، داعين للمرة الاولى إلى الضغط على كل المرشحين الرئاسيين الحاليين لكي يلتزم كل منهم - في حال نجاحه - تشكيل حكومة وحدة وطنية، بمعنى أن تكون laquo;حكومة حزبية ثنائية فعلية، وعلى أن تعين فيها أعلى الكفاءات المهنية بصرف النظر عن انتمائها الحزبي.. والدفع نحو وضع استراتيجيات محددة لخفض ظاهرة الاستقطاب الحزبي، والتوصل بدلا منها لإجماع ثنائي حزبي تجاه مجمل أجندة التحديات القومية التي تواجهها بلادناraquo; على حد قول بوب غراهام العضو السابق في مجلس الشيوخ عن الحزب الديموقراطي.

لم يكن الانحدار هو فقط ما جرى فى الحياة السياسية الأميركية في ولايتي جورج بوش، ولكن فى الأداء الاقتصادي أيضا. لقد تضاعفت الميزانية العسكرية الأميركية سنة بعد سنة حتى أصبحت هي الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية. في ظل هذا التطور لم يكن مفاجئاً أن تعلن وزارة الخزانة الأميركية في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 2007 أن الدين العام تخطى، وللمرة الاولى، عتبة 9 تريليونات دولار. ولم يكن حجم هذا الدين في سنة 2001 عندما أصبح جورج بوش رئيساً سوى 5.7 تريليون دولار.

وفي الحياة الأميركية هناك مدرسة قائمة منذ سنة 1949 على الأقل تروج لفكرة أن الإنفاق العسكري المتزايد هو المحرك الأساسي للاقتصاد، وأن زيادته بالتالي هي أقصر الطرق لمواجهة الركود الداخلي. هذه المدرسة تتبناها بالدرجة الأولى وتروج لها الشركات الأميركية المنتجة للسلاح وتجد من يسايرها فى وزارة الدفاع الأميركية، بما جعل الرئيس الأميركي الراحل دوايت ايزنهاور يحذر علنا فى خطابه الرئاسي الوداعي من سيطرة هذا التحالف العسكري الصناعي على الإدارة الأميركية.

وجربت إدارة جورج بوش في السنوات الأخيرة أن تضغط على حلفائها فى أوروبا واليابان لكي يشاركوا بتمويل أكبر للموازنات الدفاعية، سواء مباشرة أو من خلال منظمة حلف شمال الأطلسي. وكانت الحجة الأميركية هنا هي أن أميركا هي التي تحملت بدرجة أكبر من حلفائها عبء المواجهة مع الاتحاد السوفياتي طوال سنوات الحرب الباردة، حيث كانت أميركا بمفردها تخصص ستة في المئة من إجمالي الناتج المحلي للميزانية الدفاعية، وأوروبا الغربية كلها كانت تخصص فقط ما بين اثنين إلى ثلاثة في المئة من إجمالي ناتجها المحلي، بينما اليابان لم تخصص أكثر من واحد في المئة للغرض نفسه.

وحتى بول كينيدي المؤرخ البارز واستاذ التاريخ المعروف في جامعة ييل الأميركية - وهو نفسه من أصل بريطاني - تابعناه وهو يكتب اخيرا laquo;اليوم تتكفل الولايات المتحدة منفردة، مثلما كان عليه حال كل من الإمبراطوريتين السابقتين الرومانية والبريطانية، بتوفير تلك السلعة الأمنية العالمية. فمن غيرها تمكن بالفعل من لجم كوريا الشمالية والحيلولة دون انزلاق شرق آسيا إلى هوة حرب إقليمية طاحنة؟ ولمن تعود تلك السفن الحربية المنتشرة في منطقة الخليج العربي بكل ما توفره من أمن لناقلات البترول العملاقة المتجهة إلى كل من اليابان والموانئ الأوربية؟ وفوق ذلك وقبله، على جيب من يقع العبء الضريبي الأكبر لقاء الحفاظ على عهد laquo;باكس أميريكاناraquo; هذا الذي تكفل بتوفير الأمن والسلم العالميين؟raquo;

وامتدادا لهذا المنطق نفسه أصبح هناك من يروج لفكرة أن أميركا تتحمل كلفة مادية وبشرية طائلة فى حربيها الدائرتين حاليا في كل من أفغانستان والعراق، بينما المستفيدون الرئيسيون من هاتين الحربين laquo;هم حلفاؤنا العرب والأوربيون والآسيويونraquo;. ويعني هذا الكلام أن أميركا تشن الحروب وعلى الآخرين أن يدفعوا الثمن مشاركة لأميركا... إما بشراء أسلحة أميركية أو باتفاقات أمنية مع أميركا أو بالسماح بوجود قواعد عسكرية أميركية أو بزيادة ميزانياتهم الدفاعية... أو بكل هذا معا.

لكن التناقض هنا واضح في كل مرة. في حالة العراق مثلا لم تستشر أميركا أحدا لكي تغزو العراق وتحتله، وإنما هي فعلت ذلك لأسباب قررتها هي، وبحجج زائفة اختارتها هي، وفي مواجهة معارضة عالمية كاسحة رفضتها هي. وحينما ضغطت أميركا على ألمانيا وفرنسا وغيرهما اخيراً لزيادة القوات العسكرية لهذه الدول في أفغانستان، وأن تتحرك تلك القوات إلى جنوب أفغانستان تحديدا حيث المواجهة ساخنة والموقف العسكري حرج، رفضت حكومة ألمانيا بشدة قائلة إن الإتفاق الأميركي معها من البداية كان يتناول فقط مشاركة عسكرية ألمانية محدودة، بل يستثني تدخل تلك القوات في جنوب أفغانستان إلا في ظروف استثنائية ومحدودة زمنيا. باقي الأوروبيين قالوا إن أميركا حينما قامت بغزو أفغانستان قالت لمشاركيها الأوربيين بوضوح إن القوات التي سيشاركون بها ستكون مطلوبة للعمل فقط كقوة لحفظ السلام وليس لخوض حرب ساخنة حقيقية.

الآن تغير أميركا كلامها، فقط بسبب أزمتها الممتدة فى أفغانستان والعراق. أما بالنسبة لما تزعمه أميركا أنها هي وحدها التي قامت بلجم كوريا الشمالية وبالتالي حالت دون انزلاق شرق آسيا إلى هوة حرب إقليمية طاحنة، فالحقائق تقرر أن أميركا هي التي تحاصر كوريا الشمالية منذ عقود، واستمرت تهدد على مدار الساعة بإسقاط النظام الحاكم فيها، ويرابط أربعون ألفا من جنودها في قواعد عسكرية تهدد بها كوريا الشمالية من أراضي كوريا الجنوبية، وهي قواعد لا تتوقف تظاهرات شعب كوريا الجنوبية ضدها رفضا لوجودها من الأساس.

وإذا كانت أميركا قامت حقاً بلجم كوريا الشمالية فإن الفضل فى التوصل مع الأخيرة إلى اتفاق بتفكيك قدراتها النووية العسكرية لم يكن ممكنا مطلقا من دون تعاون ألحت أميركا للحصول عليه من الصين الدولة المجاورة لكوريا الشمالية. في المقابل، حينما قررت الصين زيادة ميزانيتها الدفاعية بهامش بسيط لتصبح 65 بليون دولار اعترضت أميركا محذرة العالم كله من قوة الصين الدفاعية باعتبارها نذيراً سيئاً بالمفهوم الأميركي. أما حينما تزيد أميركا نفسها ميزانيتها الدفاعية لسنة 2008 فتصبح 623 بليون دولار - يعني تقريبا عشر أمثال الإنفاق العسكري الصيني ويعني أيضا تجاوز الإنفاق العسكري لكل دول العالم مجتمعة - فإن هذا ليس نذيرا سيئا وإنما على العالم أن يرحب بهذا التطور ويشتري المزيد والمزيد من الأسلحة الأميركية ليخفف عن أميركا الأعباء ويتحملها هو.

أليس غريبا بعد كل هذا أن يصبح المنطق الإمبراطوري الأميركي الجديد هو: نحن لنا الإمبراطورية وعلى الآخرين أعباؤها؟