خيري منصور

للمرة الثانية خلال أسابيع، تعترف الدولة العبرية بالهزيمة والفشل، المرة الأولى ما صدر عن لجنة فينوغراد رغم اللهجة المخففة والتي أقرت بالهزيمة في الحرب على لبنان صيف عام ،2006 والمرة الثانية والتي لن تكون الأخيرة التي اعترف بها أولمرت بأن المضادات التي أنفقت عليها مبالغ طائلة لصد صواريخ القسام عن مستوطنة ldquo;سيدوروتrdquo; قد انتهت إلى الفشل، أما السبب فهو مثير لعدة تداعيات، ويقبل تأويلات رمزية لا آخر لها.

يقول أولمرت إن ما أعدته وزارة حربه ضد تلك الصواريخ، ثبت بطلانه أمام الصواريخ ذات المدى القصير، لأنه صمم لمسافات أطول، هكذا نقرأ الاعتراف رمزياً، فكلما اقترب الاحتلال من المقاومة وقصرت المسافة بينهما، يكون ذلك لمصلحة المقاومة، لأن الانتصارات التي تحققت حتى الآن للجيش الصهيوني ldquo;مؤتمتةrdquo; وحققتها الحواسيب والقنابل الذكية.

وإذا كان الطيران على ارتفاعات قليلة ينجو من رصد الرادار، فإن الصواريخ التي تنطلق من مسافات قريبة تنجو أيضاً من شبكة الردع، وهذا ما يفسر هزيمة جيوش نظامية مدججة بأحدث الأسلحة المتطورة أمام المقاومة، حتى لو كانت أسلحتها بدائية.

وقد لا يدعي الفلسطينيون أنهم حققوا انتصاراً عسكرياً بالحجارة على الفانتوم والأباتشي ودبابات ميركابي، لكن الفزع الذي كان يشعر به جيش الاحتلال أمام هذه المواجهة هو نفسي بالدرجة الأولى، لأن الأصابع التي تستخدم الحجر ومن بعده أسلحة أخرى هي التي تحسم الأمر، بدءاً من منابعها في القلب والكتف، ومن الثقة بأنها على حق.

ولعلّ الزهايمر السياسي الذي عصف بذاكرة العالم خلال العقد الأخير لم ينس الناس تلك العبارة التي توجه بها الجنرال جياب إلى وستمورلاند خلال الحرب الفيتنامية ldquo;نحن من اتخذ قرار المقاومة حتى الموت أو الاستقلالrdquo;، فعل ذلك بقلم منتزع من غصن شجرة آسيوية عجوز.

وكان جياب قد نصح الجنرال الأمريكي بإضافة معول إلى جعبة السلاح التي ينوء بها جنوده كي يحفر قبره بنفسه، لأن أهل البلاد لا وقت لديهم لذلك، إذ يكفيهم العدد اليومي ممن يموتون تحت وابل القصف.

أما التفسير اللوجستي بعيداً عن الدلالات الرمزية لثنائية الاحتلال والمقاومة، فهو أن الدولة الصهيونية ذات خبرة في حروب تقليدية ومتخصصة في القصف عن بعد على طريقة: اضرب واهرب، لكنها في لبنان لم تستطع الهرب، إذ سرعان ما وقعت في عدة كمائن متعاقبة، لهذا أصيبت بهذه الفوبيا، مما يمكن تسميته المسافات القريبة والحرب بالعين المجردة والأصابع المجردة أيضاً.

ولو تنبه أولمرت إلى هذا كله وما يمكن أن يقود إليه اعترافه بالفشل من تأويلات لاحتفظ بالفشل وأسراره، لكن التاريخ سيبقى دائماً ذا وجهين، وستبقى القوة إذا فاضت عن الحدود تصيب من يحتكرها بالعمى.

لن نذهب بعيداً في ترميز واقع له هذه الصلابة، لكن ما تعلنه شركات الطيران بين وقت وآخر عن انتصار عصفور على طائرة ليس من قبيل الشعر وهو حقيقة فيزيائية تماماً، كما أن المقاومة التي تبتكر سلاحها وفق نظرية التحدي وتطوير الاستجابات تنتصر على أباطرة.