سيف الإسلام بن سعود بن عبد العزيز

في ليلة الجمعة الماضية كنتُ عائداً إلى المنـزل من رحلة برية مع أحد الأصدقاء، الساعة حينها كانت تُشير إلى الثانية صباحاً، وفجأة وبدون سابق إنذار انعدمت الرؤية أمامي وأمام السائقين الآخرين تماماً، بفعل عاصفة ترابية قَدِمت من الشمال مكتسحة ما أمامها بداية من شمال المملكة إلى جنوبها، مروراً بالشرق لتحطّ برمالها في أقصى الغرب.. بعد أيام قليلة لاحقة.

هذه السنة كانت أقسى سنوات الجفاف الذي يضرب بين الحين والآخر شبه الجزيرة العربية وما حولها، على الأقل فيما أعرفه من الأزمنة ما بعد إدراكي للحياة وكربها.

أنا هنا لست في وارد الكتابة عن علم الأرصاد والتغيرات المناخية، أنا أكتب هذا المقال من وحي تلك العاصفة التي سبقتها عواصف، ويُعتقد أن عواصف رملية أخرى، أشد، في الطريق إلينا في بدايات ربيع وصيف هذا العام، جراء قلة الأمطار والأرض العارية من الغطاء النباتي.

تهادت أمام مُخيلتي مشاهد استحضرتها من البعيد، حيث كان يعيش آباؤنا وأجدادنا متعاركين مع قسوة بيئتهم ومناخهم الذي يحنُّ سنةً ويقسو عليهم سنوات عديدة

لا تُحصى، يدل على ذلك التراث الشعري الذي نُقل إلينا مع بعض الحكايات وتدوينات الوقائع التاريخية عن عقود المحن البيئية. صبر رجالنا الأقدمون وحاولوا التكيّف مجبرين مع تلك القسوة البالغة، دون أن تعينهم وسائط تكنولوجية حينها في التخفيف مما يعانونه؛ لم يكن الذهب الأسود قد اكتُشف في باطن أرضهم، والذي يجعل ماء البحر المالح حلواً، والسَّموم في الخارج هواءً بارداً في الداخل، ويدفع للأسواق خضاراً وفاكهةً تُزرع في بيوت محمية اصطناعية لا تُعرف أماكن زراعتها من قبل إلا في شرق الأرض البعيد أو في أقصى الغرب.

لم يصبر رجالنا الأشداء، جزاهم الله عنا خيراً، في الماضي فقط على بيئتهم، بل أسّسوا دولاً موحدة مستقلة أبيّة، البعض منهم، كما يروي التاريخ، لم يصبر على المحيط المناخي غير الرحيم، ولم ينتظر أن تتوحد بلاده وتأمن وتنعم، فهاجر طلباً للزرق والعيش الأفضل، وكان ذلك مشروعاً في ظل البؤس القديم ذي الأشكال المتنوعة.

لكنني تنبهت لأمر أكاد أجزم أنّ كثيرين تنبهوا إليه أيضاً: أسلافنا وهم يعاركون حياتهم ويُشيدون أسس مجتمعات الدول في وقت لاحق، لم يخطر ببالهم، كما أظن، أن تتحول بلادهم إلى مركز استقطاب عالمي بدلاً من هجراتهم الجماعية والفردية منها، بالتأكيد تلك الخواطر سكنتهم وهم يجهلون أن أراضيهم تحوي ثلث مخزون العالم من الطاقة البترولية، ولم يتخيّلوا أن مداخيل دولهم ستصل إلى أصفار في اليمين كـثيرة جداً تتعـدى الخمسة، وهي حدود تخيلهم ومعرفتهم وقتها!

لكن لو افترضنا أن حُجب الغيب قد رُفعت لهم، فماذا ستكون نصائحهم لنا والحال كما هو الآن؟ ماذا سيقولون لأهل الثراء والحالمين بالثراء والمتعاركين مع الثراء؟

الأغلب، في رأيي، أنهم سينصحون أجيالهم بعدم شنّ حرب على بيئتهم وظروفهم المحيطة، لن يمانعوا بالتأكيد في تطويع البيئة، لكن سيخافون من العراك معها، بحدسهم كانوا يعرفون أن الجزيرة العربية وما حولها شحيحة في مواردها المائية والنباتية، لهذا سيقترحون على من يخلفهم إزالة فكرة التوسع الزراعي، والفكرة الأخرى الأكثر تكلفة وهي أن نصبح دولاً مصدرة وليست مستوردة للمنتجات الغذائية، فهذه الفكرة وحسب خبراتهم هي أقرب للانتحار المائي في بلادٍ تجد مشقة لتوفير مياه الشفة.

أما الصناعة، فهم سيقولون لذرياتهم أن لا بأس بقيامها، على شرط أن تكون مرتبطة بنتاج الأرض التي عاشوا عليها، فبيوتهم العتيقة كانت من الطين، والتراب إذا خُلط مع شيء من الماء أصبح مادةً لبناء بيوتهم القديمة، وجريد النخل الذي هو عماد زراعتهم يستفاد منه كأسقف للبيوت، كما سيستفاد من الرطب والتمر وإن تنوعت تلك الاستخدامات؛ سيقولون لمن سيأتي بعدهم: لا ضرر في صناعة مرتبطة بالمادة اللزجة السوداء التي تخرج من باطن أرضكم وأرضنا، وإياكم وصناعة تأتون بموادها الأولية وبأيديها الأجنبية المحركة والمسوقة لها من خارج حدودكم؛ ستكون هذه العمليات جدُّ مرهقة لاقتصادكم حتى لو باهيتم بها الأمم الأخرى عن طريق الاستعراض المظهري ليس إلا.

تضخم المدن وتكاثر السكان المرتبطَين معاً، سيكون الشغل الشاغل لأسلافنا عندما يحذرون أعقابهم من التمسك بهما كدليل على التحضر والمدنية، سيذكروننا بأنهم أقاموا مدناً صغيرة يقطنها أُناس وعائلات محدودو العدد على ضفاف الأودية التي لا يُعلم متى تسيل، وبالقرب من الشواطئ التي لا يُعلم متى يرجع مغادروها بحراً بحثاً عن رزقٍ صعب المنال. عملوا ذلك مجبرين لأن الطبيعة الجغرافية وحقائق البيئة لم تترك لهم مساحة إشادة المدن الضخمة كما يحدث في بلدان الأنهار والينابيع. سيحاجوننا كثيراً بأن بيئتهم التي تركوها قبل أن يناموا طويلاً في لحودهم لم تتغير معطياتها، حتى والذهب الأسود يرفع من احتياطات أحفادهم النقدية؛ فمازال البشر في الجزيرة وفي الخليج يكشفون كم بئر ماء نضبت، وكم زراعة تصحرت، أما شواهد تلوث الماء العذب والأُجاج إضافة للهواء والغذاء.. أما مناظر البقايا العضوية للإنسان والحيوان ومخلفاتهما متعددة الأشكال والألوان، فهي دلائلهم على مخالفتنا لقانون طبيعة أرضنا وسمائنا، ذلك القانون الذي تزاوجت معه جذورهم البشرية الموغلة في القدم منذ آلاف السنين.. حتى خالفناه!

سينصحنا أجدادنا بأن نتمتع، وإن بمقادير عظيمة من الحكمة والروية، بتلك النعم التي نطلق عليها عصور التكنولوجيا المتقدمة، لكن حذار حذار من الاستماع لنصح الراغبين في سرقة أصفارنا الكثيرة التي على اليمين، وهم يسوقون الأحلام الـخُلّب بأن زراعتنا قادرة على إنقاذ كندا واستراليا من المجاعة، وأننا قادرون على منافسة أكبر وأضخم العواصم مساحةً وسكاناً، ففي ذلك نعيٌ لبلداننا.. وإن تأخر.

وعندما سنقول لهم كيف نستثمر إذاً كل تلك الأرصدة من العملات والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة؟، فإنهم سيردون علينا أنهم سيتركون لنا ناصية اختيار الأنسب حسب ما تعلمناه من علوم الاقتصاد وإدارة الموارد والتنمية.. على ألا يكون هذا على حساب ما يعرفونه ونجهله من قانون البقاء على أرض الجزيرة والخليج.

الغبار... لا يزال يمنع عني الرؤية، مهما حاولتْ عربتي الحديثة فعله!!