علي محمد فخرو

الشاعر الفرنسي أراغون انخرط، مثل الكثيرين غيره من المثقفين في أوروبا، في الحركة الشيوعية عندما كان الفكر الاشتراكي في بدايات القرن الماضي يمثل أملا للإنسانية في أن تخرج من جحيم الصِراعات والحروب الدولية والطبقية ومن انتكاسات النظام الرأسمالي الاقتصادي الجائر الذي كان يدخل العالم بين الحين والآخر في فترات ركود اقتصادي وهزات مالية عنيفة. كان الأمل كبيرا في تحقق آمال البشر في العدالة والمساواة وانبثاق فجر الفقراء والمهمشين والمحرومين.
لكن أراغون اكتشف، مثل الكثيرين الآخرين، بعد المسافة بين القول والشعارات وبين تفعيلها في الواقع فعبر عن مأساته الشخصية بأبيات مفجعة :
ممزق قلبي، ممزقة أحلامي/ لكن من رمادها سيطلُ فجر جديد / الذي لن يري قط ما شاهدته بنفسي . أراغون هدأ من لوعته وخفف من يأسه وغسل جحيمه الداخلي بأبيات الألم الممزوج بالأمل. وهكذا استكان داخله وانتقل إلي عوالم أخري شغلته بقية حياته المديدة. ولكن ماذا عنا، نحن جيل الأحلام الكبار العربية، أحلام وحدة أمة العرب ووطنها الكبير، أحلام إنحسار المشروع الصهيوني وموته، أحلام حرية الوطن والمواطنين ورحيل قوي الاستعمار وقوي الاستبداد إلي الأبد، أحلام العدالة الاجتماعية وانتصار الاشتراكية، وأخيرا أحلام الديمقراطية وصعود صوت الفقراء والمهمُشين والمظلومين؟ ماذا عنُا ونحن نري انتكاسات العهر ونسمع نزاع الموت لكل تلك الشعارات والأحلام والأمنيات ولا نري خيوط أشعة ذلك الفجر الذي رأيناه لوهلة ثم فجأة ماعدنا نراه، ليخيِم ظلام دامس علي أرضنا وسمائنا وأرواحنا؟
قد يستطيع البعض منا أن يفعلوا مافعله الشاعر الفرنسي وغيره، فينفِسوا عن تمزقات قلوبهم وأحلامهم بالشعر والغناء والرسم والنحت وكل التعبيرات الجميلة الأخري، ثم يرتاح المحارب اليائس بالجلوس علي قارعة الدرب الطويل. لكنه سيفجع، مثل ما سيفجع أراغون وهو في قبره لوعرف أن مارآه وقاده إلي التمزق كان أقل كثيرا مما كان سيراه في عالمنا المعولم المريض الأحمق اليوم وأن الفجر الذي حلم به انقلب إلي ليل حالك حزين.
لا، منطلق الخروج من الأحلام الممزقة لا يكون بحرقها ليخرج من رمادها فجر أحلام جديدة. فأحلام الإنسان الكبري ليست أضغاث أحلام تستبدل كما تستبدل الثياب العتيقة البالية. إن المنطلق ليس تبديل الأحلام بل إنعاش الإرادة، إرادة تحقيق الأحلام. موضوع الإرادة ليس موضوعا فلسفيا أكاديميا.إنه جزء من تركيبة روح الإنسان.إنه قديم قدم الإنسان نفسه، فمنذ أكثر من خمسة وعشرين قرنا أكُد حكيم الصين كونفوشيوس في تعليق سياسي ملفت بأنك تستطيع خلع القائد من جيشه، لكنك لا تستطيع خلع الإرادة من الإنسان . ووصل الموضوع إلي قمته عند فيلسوف ألمانيا فريدريك نيتشه وهو يتساءل: هل تريد إسما لهذا العالم؟ هل تريد حلا لكل معضلاته؟ إن هذا العالم هو ارادة القوة ولا شيء غير ذلك وعندما ذم الإمام علي بن ابي طالب المتخاذلين بوصفهم: كلامكم يوهي الصم الصلاب (يضعف الحجر الصلب) وفعلكم يطمع فيكم الأعداء وصرخ في وجوههم أقولا بغير عمل، وغفلة من غير ورع، وطمعا في غير حق؟ ... فان الإمام رضي الله عنه كان يصف بعبقريته الإرادة الرُخوة في نفوس بعض أتباعه.
من رماد الأحلام العربية الممزُقة يجب أن تخرج كل أنواع الإرادات: إرادات الفكر والثقافة والسياسة والضمير والأخلاق، وليست ارادة القوة فقط. والتعويل علي أنها جزء طبيعي في الإنسان سيقود إلي أخطاء سياسية فادحة. إنها تحتاج إلي نحت يومي وإلي بناء مستمر. هذا هو قدر ومهمة الذين تتمزق قلوبهم في أرض العرب من مفكريها ومثقفيها ومناضليها، وليس الإنتظار علي قارعة الطريق لظهور فجر أحلام جديدة.