فاطمة البريكي

درجت العادة أن نتبادل عبارات التهنئة بالعام الجديد في مثل هذه الأيام، خصوصا مع تزامن موعد دخول العامين الهجري والميلادي، مما يجعل العبارات المتبادَلة أضعاف المعتاد في مثل هذه المناسبات. لكننا استقبلنا عامنا الهجري على أصوات القنابل والمدافع التي شعرنا أننا عشنا أجواءها تماما وكأننا في قلب غزة وهي واقعة تحت القصف، وعلى هذه الأصوات ذاتها نستقبل العام الميلادي الجديد، فأنّى لنا أن نتفاءل بعام جديد أفضل من سابقه، أو سابقيه!
أمام حديث الصورة المتلفزة الآني، والنقل الحي والمباشر لما يحدث في الأراضي الفلسطينية من مناظر يخجل لها الضمير الإنساني لا يجد المرء في نفسه القدرة على الكتابة أو التعبير عن سخطه على واقع يعيشه رغما عنه. إننا نعيش مأساة إنسانية بكل المقاييس؛ إذ لم يعد للإنسان بوصفه إنسانا قيمة تُذكر، بل صار أرخص مما يدب على الأرض في قلب الظلام، ويُداس بأقدام السارين دون أن يشعروا به حتى.
لستُ ممن يحتفل برأس سنة هجرية ولا ميلادية، لكني لا أرى بأسا ndash;عادة- في تبادل التهنئة بحلول سنة جديدة مع الأهل والأصدقاء، إلا أن دخول العام الجديد هذه المرة سيكون مختلف المذاق والنكهة، ليس بالنسبة لي فقط، بل بالنسبة لأولئك الذين يعانون في غزة، وكذلك بالنسبة لمن يمتلك بقية إحساس ويتخذ موقفا يدين فيه ndash;على الأقل- المجزرة التي تُرتكب فيها، وهذا أضعف الإيمان.
أما أولئك الذين لا يعنيهم أمر الشهداء والجرحى الذين تساقطوا بالآلاف منذ مطلع هذا الأسبوع فلن يشعروا بأي اختلاف في نكهة احتفالاتهم بانقضاء عام أو دخول عام، وستطربهم أنغام فلانة وعلانة من فناناتنا الفاتنات، كدأبهم كل عام.
إن القصف المدروس الذي تقوم به القوات الإسرائيلية منذ بداية عدوانها الغاشم لا يعبر إلا عن شيء واحد، وهو أن قتل المدنيين هدف رئيسي لهذه القوات التي لم تفلح في كسر شوكة أهالي قطاع غزة بالحصار، والتجويع، والعزل عن العالم، وبلغت حدا من اليأس من قدرتها على النيل منهم.
لذلك لم تجد سوى منطق القوة والعنف حلا تشفي به غليلها، حتى لو ادّعت غير ذلك، وحتى لو صاحت حليفتها الولايات المتحدة بفتح المنافذ لإدخال الأدوية والغذاء من جميع الأطراف إزاء قلقها عن تدهور الوضع الإنساني في غزة، دون أن تكلف نفسها laquo;إدانةraquo; المتسبب في تدهور هذا الوضع ndash; على الأقل، بل على العكس، قامت بمباركته بصمتها مرة، وبتأكيدها على كونه دفاعا عن النفس مرة أخرى.
تذكر الأخبار أن ثلاثة مساجد سُوّيَت بالأرض، كما تذكر الأخبار أيضا أن عددا كبيرا من الغارات طالت مؤسسات تعليمية من مدارس وجامعات، وطالت منازل كذلك، وغيرها من مواقع مدنية لا تحتمل أن تكون عسكرية حتى للأعمى السائر في جنح الظلام، لكنها الرغبة الحاقدة في تدمير كل شيء، بغض النظر عن أي اعتبار إنساني أو أخلاقي. وما دام الدعم الأميركي موجودا فلا بأس من أن تفعل الطفلة المدللة ما شاء لها هواها أن تفعل.
ولم تنس هذه الطفلة أسيرها جلعاد شليت عند حماس، فحمّلت هذه الأخيرة المسؤولية الكاملة عن حياته وسلامته، وهنا تأتي المقارنة الغريبة، فهي قتلت وجرحت ما يزيد على الألفي فلسطيني حتى وقت كتابة هذه السطور، ولم تطرف لها عين، لا هي ولا حليفاتها من الدول الغربية التي ترى أن العدوان يدخل في باب laquo;الدفاع عن النفسraquo;، وأن حماس تتحمل مسؤوليته بالكامل!!
في حين إن حياة فرد واحد من أفراد هذا الكيان الهجين قد تصبح ذريعة أخرى لعدوان آخر، ولمجزرة أخرى، ولمحرقة أخرى، ولكل مرادفات هذه الكلمات في قواميس الإجرام والإرهاب.
لقد فقدت عائلة واحدة فقط خمسا من بناتها وهن نائمات في منزلهن الواقع قرب أحد المساجد، ولم يتحرك المجتمع الدولي، ولا مجلس الأمن، ولم نشهد رد فعل ملزما بوقف العدوان أو على الأقل عدم تسليطه على المدنيين والأطفال خصوصا. أما الأسير الإسرائيلي فإذا تعرضت حياته للخطر فإن الدنيا ستقوم ولن تقعد حينها، ولن تتخلى حليفات إسرائيل المخلصات عن دعمها في ذلك الوقت، وسيقفن معها في مصيبتها بفقدها ابنا بارا من أبنائها، وهو موقف يحتاج لدعم معنوي ومادي، لا أظن أن مثل هؤلاء laquo;الحليفاتraquo; سيقصرن فيه.
أما الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني فلا أظن أنه تغير منذ أن بدأت أدرك هذه القضية، وعلى الرغم من أنني لست أذكر على وجه التحديد متى بدأ وعيي بها، لكنني أذكر أن ذلك كان منذ سنوات الابتدائية العليا على الأقل، حتى كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987م)، التي تردد صداها في جميع أنحاء الوطن العربي، تضامنا مع أطفال الحجارة الذين لم يكن لهم حول ولا قوة إلا بالله أولا، وبالحجارة التي بيدهم ثانيا.
في تلك الأيام، حين كنت في السنة الإعدادية الأولى كنت أعتقد ndash; بسذاجة تلك المرحلة - أن موضوع القضية الفلسطينية لن يطول أكثر، وأن هذه الانتفاضة قادرة على أن تجتث هؤلاء المستوطنين من تربة فلسطين وتبرها الغالي الذي يلفظ مثل هذه الأشكال الغريبة ولا يتقبل وجودها عليه. ولم يكن يدور في خلدي حينها أنني سأمضي للأمام حوالي عشرين سنة والقضية لا تزال قائمة، والصمود الفلسطيني لا يزال كما عرفته بدءا، والموقف العربي المتخاذل لم يخجل من تخاذله فاستمرّ فيه حتى اليوم.
لم أكن أتوقع أننا سنقضي عشرين سنة دون أن نستطيع الوصول إلى صيغة موحدة نخرِج بها مغتصبا من أرض يعلم الغريب قبل القريب أنها ليست له، وأنه ليس صاحب حق فيها، وإلا لكان أخذها منذ ستين عاما وطرد الفلسطينيين منها تماما.

اليوم، لا يزال الأمل موجودا في عودة الحق لأصحابه، ولكن مصدر هذا الأمل هو قوة الشعب الفلسطيني الصابر نفسه، وليس الموقف العربي الذي لم يستطع أن يتوحد حتى على مستوى الكلام، ناهيك عن الفعل.