محمد السعيد إدريس

على الرغم من كل التشابه الشديد بين جريمة الحرب الدامية التي تشنها إسرائيل هذه الأيام ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وتلك الحرب التي سبق أن شنتها إسرائيل أيضاً ضد لبنان في صيف 2006 سواء من ناحية الأهداف أو من ناحية المبررات، فإن هناك علاقة قوية أيضاً بين هذه الحرب وثلاث عمليات انتخابية ترتبط نتائجها بتلك الأهداف التي تسعى إسرائيل إلى تحقيقها من حربها في قطاع غزة.

لقد كانت حرب صيف 2006 تستهدف تحقيق الشق الثاني من قرار مجلس الأمن رقم 1559 بعدما نجحت الولايات المتحدة وفرنسا في تنفيذ الشق الأول من ذلك القرار الذي كان ينص على إخراج سورية من لبنان. أما الشق الثاني الذي لم تستطع الحكومة اللبنانية وحلفاؤها، تحقيقه فكان ينص على نزع أسلحة الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية. وكان المقصود بالميليشيات اللبنانية laquo;حزب اللهraquo; بالتحديد، أما الميليشيات غير اللبنانية فكان المقصود بها بعض الأسلحة الموجودة لدى أطراف فلسطينية في مخيمات اللاجئيين الفلسطنيين.

ولقد كشف الكاتب الأميركي الشهير سيمور هيرش في مجلة laquo;نيويوركرraquo; الأميركية حقيقة التنسيق بين القيادات العسكرية الإسرائيلية والأميركية لتنفيذ عملية عسكرية ضد لبنان تشبه تلك العملية التي شنتها قوات حلف شمال الأطلسي ضد القوات الصربية في كوسوفا بهدف القضاء نهائياً على القدرات العسكرية لـlaquo;حزب اللهraquo;، وأنه في حالة نجاح هذه العملية فسيكون من السهل تكرارها ضد إيران.

كان الهدف هو القضاء ونهائياً على القدرات العسكرية لـraquo;حزب اللهraquo; لتحقيق غرضين: أولهما، تأمين الحدود الشمالية للدولة الإسرائيلية. وثانيهما، فرض معادلة توازن قوى جديدة في لبنان تضع نهاية لاختلال التوازن القائم لصالح laquo;حزب اللهraquo; وتيار المقاومة والممانعة، بحيث يمكن القضاء نهائياً على النفوذ الإيراني والسوري في لبنان وخلق لبنان جديد حليف لأميركا وصديق لإسرائيل، وقادر على المبادرة والمجاهرة بتطبيع العلاقات اللبنانية - الإسرائيلية.

أولمرت والأهداف الثلاثة

لقد كان عمير بيرتس وزير الدفاع الإسرائيلي حينذاك واضحاً وصريحاً في كشف مضمون هذا الهدف، وكذلك كان رئيس الحكومة ايهود أولمرت في تصريحاته المعلنه.

فقد حدد ايهود أولمرت بوضوح أشمل أهداف تلك الحرب بثلاثة أهداف هي: تجريد laquo;حزب اللهraquo; من سلاحه، وتطبيق القرار 1559 وبالتحديد الشق الثاني المتبقي من ذلك القرار والمتعلق بنزع سلاح المقاومة، وأخيراً إطلاق الجنديين الأسيرين لدى laquo;حزب اللهraquo; وأثبت فشلة في تحقيق أي منها.

ومثلما كانت عملية laquo;الوعد الصادقraquo; التي قام بها رجال laquo;حزب اللهraquo; في شمال إسرائيل ونجحوا خلالها في قتل عدد من الجنود الإسرائيليين وأسر اثنين مبرراً لشن حرب صيف 2006 ضد لبنان، فإن قرار حركة laquo;حماسraquo; إلغاء اتفاق التهدئة الذي عقد مع إسرائيل بوساطة مصرية كان مبرراً لشن الحرب الحالية ضد قطاع غزة. ومثلما كشف سيمور هيرش أن قرار الحرب الإسرائيلية ضد لبنان اتخذ في الولايات المتحدة قبل أشهر عدة من عملية laquo;الوعد الصادقraquo; وأن التوقيت لشن تلك الحرب كان مرهوناً بأول عملية يقوم بها laquo;حزب اللهraquo; ضد إسرائيل، فإن الأحداث القادمة سوف تثبت أن الحرب الحالية ضد قطاع غزة كانت في انتظار قرار مثل قرار حركة laquo;حماسraquo; إنهاء العمل باتفاقية التهدئة وتوريطها في العودة إلى إطلاق الصواريخ ضد المدن الإسرائيلية. وإذا كان قرار شن الحرب على لبنان تم بترتيب إسرائيلي ndash; أميركي، فإن شن الحرب على قطاع غزة ربما يكون قد تم أيضاً بترتيب أميركي ndash; إسرائيلي، وبحضور إقليمي فلسطيني وعربي أيضاً، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، رغم إدراك الجميع أن قرار حركة laquo;حماسraquo; إنهاء العمل باتفاق التهدئة كان إعلاناً لأمر واقع لأن laquo;حماسraquo; عندما قبلت التهدئة كان بغرض فتح المعابر وإنهاء الحصار وتأمين معيشة وحياة الشعب الفلسطيني في غزة ووقف الاعتداءات الإسرائيلية، ولكن استمر الحصار ليس فقط إسرائيلياً بل وعربياً، كما لم تتوقف الاعتداءات، ومن ثم لم يعد لدى حركة laquo;حماسraquo; أي مبرر أو أي حافز للاستمرار في الالتزام بتلك التهدئة التي كانت مثار تندر وسخرية، بل واستهزاء من جانب قادة بارزين في السلطة الفلسطينية أكثروا الحديث عن تخلي laquo;حماسraquo; عملياً عن كونها حركة مقاومة وتحولها فعلياً إلي سلطة حاكمة.

وجاءت الحرب الحالية لتكشف عن أهداف تكاد تتطابق مع أهداف الحرب الإسرائيلية على لبنان صيف 2006. فهي تهدف إلى إنهاء أي وجود عسكري أو سياسي لحركة laquo;حماسraquo; في قطاع غزة، حسب ما كشف حاييم رامون نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي أكد أن هدف العدوان هو إسقاط حكم حماس في غزة وتصفية كل وجود مقاوم لمشروع التسوية الإسرائيلية، وإعادة سلطة أبو مازن، وفرض تجانس ظل غائباً في الموقف الفلسطيني من عملية التسوية. تجانس يعبر عما قبلت به سلطة أبو مازن من شروط إسرائيلية لم تقبل بها حركة laquo;حماسraquo;، وفي مقدمتها شروط اللجنة الرباعية الدولية: الاعتراف بإسرائيل، ونبذ laquo;الإرهابraquo;، والمقصود نبذ المقاومة، والاعتراف بكل الاتفاقيات التي سبق أن عقدتها السلطة الفلسطينية مع إسرائيل وفي مقدمتها الاتفاقات الأمنية.

إسقاط حكم laquo;حماسraquo; في قطاع غزة هو تنفيذ لمطلب إسرائيلي لم تستطع سلطة أبو مازن تحقيقه، على غرار عجز حكومة لبنان عن تنفيذ الشق الثاني من القرار الدولي رقم 1559، وهو أيضاً محاولة لإنهاء أي نفوذ إيراني وسوري، خصوصا أن إسرائيل والولايات المتحدة تعتبر أن حركة laquo;حماسraquo; أداة إيرانية وسورية يجب القضاء عليها للقضاء على النفوذ الإيراني والسوري وضرب مرتكزات ما يسمى بـlaquo;محور الشرraquo;.

الانتخابات الثلاثة

بهذا المعنى فإن المطلوب هو فرض معادلة توازن قوى جديدة في قطاع غزة تنهي دور حركة laquo;حماسraquo; كطرف قوي ومنافس لسلطة أبو مازن، ومعرقل لمسيرة تسوية تقبلها تلك السلطة، وترتبط هذه المعادلة بالانتخابات الثلاثة التي أشرنا إليها، وهي على الترتيب الانتخابات الرئاسية الأميركية، والانتخابات التي كانت متوقعة، أو على الأقل مطلوبة من حركة laquo;حماسraquo; مع انتهاء الولاية الرسمية للرئيس الفلسطيني في التاسع من يناير الجاري، وأخيراً الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية المبكرة التي من المقرر أن تجرى بعد أسابيع قليلة بعد فشل تسيبي ليفني في تشكيل حكومة ائتلافية جديدة تخلف حكومة إيهود أولمرت. فالحرب ضد قطاع غزة ترتبط بنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية من ناحية نتائجها التي جاءت بالرئيس باراك أوباما الذي أعلن عزمه إعطاء أولوية لعملية التسوية في الشرق الأوسط، وإجراء حوار مع إيران والانسحاب من العراق خلال 16 شهراً. هذه الوعود لا تتناسب مع حرص إسرائيل على جعل عملية التسوية مجرد غطاء لعمليات ضم وتهويد مستمرة للأراضي الفلسطينية، على نحو ما نجحت مع إدارة الرئيس جورج بوش الذي لم يستطع تنفيذ وعده بإقامة دولة فلسطينية قبل نهاية ولايته العام 2008.

إنهاء الوجود العسكري والسياسي لحركة laquo;حماسraquo; سوف يضع ضوابط على أداء إدارة أوباما، وسوف يجعلها أسيرة معادلة التسوية التي قبلتها سلطة أبو مازن، كما أن إنهاء الوجود العسكري والسياسي لحركة laquo;حماسraquo; سوف يشجع إدارة أوباما على التشدد مع إيران بعد قطع أحد أذرعتها المهمة في المنطقة على نحو ما يروج الإسرائيليون. وترتبط الحرب على غزة بالانتخابات الرئاسية الفلسطينية التي كان من المقرر أن تجرى هذه الأيام نظراً لانتهاء الولاية القانونية والدستورية للرئيس أبو مازن يوم التاسع من يناير الجاري، ولكن أبو مازن رفض ذلك، وأكد أن ولايته ممتدة حتى العام القادم حيث أن القانون ينص على إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في وقت واحد، في حين ترفض حركة حماس التمديد للرئيس أبو مازن يوماً واحداً، لأن الوثيقة الدستورية واضحة في تحديد المدة القانونية لولاية الرئيس وهي ستنتهي حتماً يوم التاسع من يناير.

التمهيد للتاسع من يناير

كان من المتوقع أن يكون يوم التاسع من يناير يوماً مشهوداً إذا اتجهت laquo;حماسraquo; إلى انتخاب رئيس جديد عندها إما أن يستمر أبو مازن معانداً ويكون للسلطة رئيسين وإما أن يختفي والاحتمالان لا ترضى عنهما لا إسرائيل ولا الولايات المتحدة ولا أطراف عربية، وكان الحل الأفضل هو إنهاء وجود حركة laquo;حماسraquo; رسمياً قبل مجيء هذا اليوم. أما علاقة الحرب على غزة بالانتخابات التشريعية الإسرائيلية، فهي تأتي من ناحية محاولة إيهود باراك زعيم حزب العمل وزير الدفاع وتسيبي ليفني زعيمة حزب كاديما وزيرة الخارجية تعديل الموازين الانتخابية لصالحهما بعد أن مالت بشدة حسب استطلاعات الرأي لصالح حزب الليكود. وهنا يبدو الخطر خطرين: الأول أن يأتي الليكود ليقود إسرائيل، والثاني أن الليكود الذي سيأتي هو ليكود أكثر تطرفاً بعد الانتخابات الداخلية الأخيرة التي جاءت بقيادات جديدة أصبح معهما زعيم الحزب بنيامين نتنياهو من الحمائم أمام هؤلاء المتشددين.

الحرب على غزة بهذا المعنى هي محاولة لتحقيق نجاح يؤكد أن باراك هو القادر على حماية أمن إسرائيل بقضائه على حركة laquo;حماسraquo; وبتثبيته للقيادة المعتدلة على رأس السلطة الفلسطينية. هذه الانتخابات الثلاثة تؤكد حقيقة أن الحرب على غزة ليست حرباً تكتيكية ولكنها حرب استراتيجية تخدم مصالح الكيان وتؤكد عزمه على إنهاء أي فرص لسلام عادل وحقيقي بالقضاء ونهائياً على ما بقي من رموز لتيار المقاومة الفلسطينية سواء كانت وطنية أو قومية أو إسلامية، وفرض توازن قوى جديد يضمن لإسرائيل القدرة الكاملة على فرض شروطها دون منازع ودون منافس.