عبدالوهاب الأفندي

- في يوم الاثنين الماضي أصبح الرئيس الصومالي عبدالله يوسف أحمد أول زعيم عربي منذ أيام سبأ وحمير يتخلى عن الحكم طواعية ويتقدم باستقالته من القيادة. وقد كانت سابقة كذلك أن عبدالله يوسف أعلن في خطابه للبرلمان أن سبب استقالته يرجع إلى فشله في تخقيق المصالحة الصومالية وإعادة الاستقرار إلى ذلك البلد الذي ظل بدون حكومة فاعلة منذ سقوط الدكتاتور سياد بري في عام 1991.
2- ولا تقدح الاستقالة في عروبة السيد عبدالله يوسف الذي تشبث بالمنصب بشراسة منذ تعيينه في مؤتمر مصالحة اختتم في كينيا عام 2004 بعد مداولات دامت عامين. وقد اقتدى يوسف بكثير من الزعماء العرب حين استعان بقوات أجنبية لمحاربة خصومه، مما دفع بكثير من المحللين للقول بأن استقالته تعد ضربة للقوى الأجنبية التي دعمته وعلى رأسها الولايات المتحدة واثيوبيا.
3- يضاف إلى ذلك أن استقالة يوسف لم تكن طوعية تماماً، فقد كان واضحاً أن اثيوبيا صاحبة اليد الطولى في نصرة حكومته لم تكن راضية عن محاولته لعرقلة خطة المصالحة التي تحققت بجهد جهيد في جيبوتي، بدليل ترحيب الحكومة الاثيوبية باستقالته. وقد تردد أيضاً أن كينيا هددت بمنع الزعيم السبعيني من دخول أراضيها إذا لم يتقدم باستقالته، وهو تهديد خطير كون يوسف الذي يعاني من مرض في الكبد يحتاج إلى زيارة كينيا باستمرار للعلاج. ويعتبر ترحيب الأمم المتحدة باستقالته دليلاً آخر على حجم الضغوط التي تعرض لها يوسف ليتخلى عن رئاسة نظام لا وجود فعلياً له على الأرض على أيه حال.
4- ولكن يبقى أن الرئيس قد قرر في نهاية الأمر الاستقالة والاعتراف علناً بالفشل، وهو أمر يحمد له مهما كانت الضغوط التي تعرض لها. ذلك أن ثقافة الاستقالة والاعتراف بالفشل تكاد تكون غائبة تماماً عن الذهنية العربية. فالزعيم العربي لا يعترف بالفشل أبداً، ويدمن لوم المؤامرات الأجنبية والأعداء الداخليين والمناخ والظروف وكل شيء إلا نفسه على الفشل. بل إن العقلية العربية أيضاً تستبطن مثل هذه الاعتقادات، كما رأينا في المظاهرات التي عمت القاهرة في حزيران (يونيو) 1967 تطالب ببقاء الرئيس عبدالناصر في الحكم بعد الهزيمة المنكرة التي تعرض لها كل العرب (هذا بالطبع إذا صدقنا أن تلك المظاهرات كانت عفوية(.
5- سمعنا وقتها من منظري الأنظمة أن بقاء تلك الأنظمة التي قادتنا إلى الهزيمة هي أكبر صفعة لإسرائيل التي كان من أهم أهدافها إسقاط تلك الأنطمة 'التقدمية'، وكأن إسرائيل يسوؤها أن تذهب القيادات التي مكنتها من قهر العرب وأن تأتي قيادات أقدر على مواجهتها!
6- الذي يسعد إسرائيل حقاً وكل عدو للأمة ليس هو بقاء الحكام الذين يريدون التربع على كراسي السلطة بأي ثمن، ومع استعداد كامل للتضحية بكل شيء، بما في ذلك كرامة ومصالح الأمة، بل وكرامتهم هم شخصياً (إن كانت لهم كرامة، وأي كرامة لحاكم يعرف أن كل الشعب يرفضه ويصر على البقاء جاثماً فوق صدور الناس وأنوفهم؟) من أجل التمتع بألقاب مملكة لا قيمة لها لأنه لا يملك من أمر نفسه شيئاً ويستطيع أصغر دبلوماسي في السفارات إياها أن يقرعه كالتلميذ وهو خاضع خانع.
7- الذي كنا نتمناه هو أن نرى استقالات جماعية للحكام العرب في قمتهم القادمة. فهذه أفضل خدمة يقدمونها لشعوبهم وللأمة. فهؤلاء زعماء اعترفوا بفشلهم علناً عن نصرة غزة، ومن قبل ذلك اعترفوا بالعجز عن نصرة فلسطين والكويت والعراق وليبيا والسودان والمغرب والجزائر (في مسألة الصحراء) والإمارات (في قضية الجزر) واليمن والصومال وسورية ولبنان وكل بلد عربي تعرض لمحنة. وهم يعترفون اليوم بعجزهم عن مجرد عقد قمة يتلون فيها آيات الأسف والحسرة وعدم القدرة على أي فعل. أليس هذا سبباً كافياً للاستقالة إن لم يكن الانتحار؟
8- عندما قررت السعودية في عام 1990 الرضوخ للضغوط الأمريكية لإدخال قوات إلى أراضيها لمواجهة غزو العراق للكويت رفض حوالي أربعة من كبار العلماء التوقيع على الفتوى التي أيدت هذه الخطوة. وقد عللت الوثيقة التي نشرت في ذلك الوقت غياب توقيعات العلماء بتعبير 'تغيب لأسباب صحية'. وبعد فترة قصيرة قامت الحكومة بإقالة هؤلاء العلماء الرافضين معللة ذلك بظروفهم الصحية. الزعماء العرب تغيبوا جميعاً عن ساحة الفعل في ساعة محنة غزة 'لأسباب صحية' أو بدعوى العجز، وهو سبب كافٍ لإقالتهم انطلاقاً من شهادتهم على أنفسهم بالعجز.
9- الجماهير العربية لا تقبل حجة حكامها المفروضين بالعجز، بل ترى أنهم يستمرئون عجزهم، بل قد ترى منهم اجتهاداً زائداً في 'التقصير' لأن قلوبهم مثل سيوفهم أصبحت مع العدو وضد الأمة. ولهذا ترى أن جريمتهم ليست العجز والتقصير، وإنما الخيانة العظمى. وربما يكونو قد جمعوا الحسنيين، فهم عاجزون وخونة في نفس الوقت.
10- الذي نجزم به أن هؤلاء الحكام عاجزون عن الاستقالة عجزهم عن أي فعل آخر فيه مصلحة الأمة. وعليه فإن من واجب الأمة 'مساعدة' هؤلاء الحكام على اتخاذ القرار الصحيح. لقد تواترت البيانات وانطلقت المظاهرات من كل فج عربي عميق، بل في كل أنحاء الدنيا، تطالب الزعماء العرب بأضعف الإيمان، وهو السماح بوصول الإغاثة والطعام لسكان غزة المحاصرين، وإصدار نداءات لوقف القتل في عزة. وقد قال أحد المسؤولين المصريين عن النداءات الموجهة إلى مصر في هذا الخصوص إنها موجهة إلى العنوان الخطأ. ونحن نرى أن النداءات في حد ذاتها خطأ، فهي لا يجب أن توجه إلى القادة العرب ليفعلوا شيئاً، بل لينصرفوا راشدين ويفسحوا الطريق لمن هو قادر على الفعل.
11- أفضل مساعدة تقدمها الجماهير العربية لغزة ولكل العرب لا تتمثل في إصدار نداءات للزعماء العرب للتحرك. فمن يتولى الزعامة يجب أن يكون قادراً على الفعل بغير نداءات. ولكن المطلوب هو أن تحاصر الجماهير قصور هؤلاء الزعماء وكبار مساعديهم وأن تقطع عنها المياه والكهرباء وتمنع وصول الطعام حتى يذعن هؤلاء لإرادة الأمة ويقرروا اللحاق بحساباتهم السرية في سويسرا ولوكسمبورغ. وإذا عجزت الجماهير حتى عن هذا فعلى العرب السلام!