يوسف مكي

للأسبوع الثاني على التوالي، تتوالى حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني على أهلنا في قطاع غزة. وعند إعداد هذا المقال يكون قد مضى على بدء العدوان عشرة أيام، وعلى الاجتياح البري ثلاثة أيام، تجاوز خلالها عدد القتلى أكثر من 600 شهيد، وما يقرب من 3000 جريح. والعجز العربي والأممي والدولي مستمر، ومحاولات مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار يكبح العدوان لا تزال رهينة بيد صانع القرار الأمريكي.
لا يمكن لأي عاقل أن يصدق الذريعة التي تسوقها الدوائر الصهيونية في تبرير حرب الإبادة التي تجري في قطاع غزة، والمتمثلة في لجم حركة المقاومة الفلسطينية ومنعها عن إطلاق الصواريخ على المستوطنات والبلدات ldquo;الإسرائيليةrdquo; القريبة من القطاع. ف ldquo;الإسرائيليونrdquo; أكدوا مراراً أن صواريخ المقاومة لم تلحق بهم خسائر بشرية أو مادية ترقى إلى تهديد أمنهم، أو إرباك مشروعهم في حيازة فلسطين. وكان تعبير ldquo;الصواريخ العبثيةrdquo; من اليافطات الأثيرة التي يجري تكرارها بشكل يكاد يكون يومياً، في الإعلام المعادي لمشروع المقاومة.
لا بد إذن أن يكون للعدوان الصهيوني هدف، أو أهداف استراتيجية أخرى، غير تلك المعلن عنها، تجعل من ترويض قطاع غزة عملية تتكافأ مع الخسائر التي تلحقها العملية وتداعياتها بالكيان الغاصب، سواء كان ذلك في الأرواح والمعدات، أو في تراجع السمعة والتقدم السياسي والدبلوماسي الدولي، الذي حظيت به ldquo;إسرائيلrdquo;، بمباركة من قوى دولية وإقليمية وعربية، والذي شهد نكسة خطيرة في الأيام الأخيرة، بسبب حملة الإبادة على القطاع.
هناك أسباب حقيقية إذن تقف خلف هذه العملية غير تلك المعلنة، يقتضي وعيها للتعامل موضوعياً مع الحدث، واتخاذ المواقف السياسية المنسجمة مع مخاطر المشروع الصهيوني، ليس على القضية الفلسطينية فحسب، بل وعلى الأمن القومي العربي الجماعي بأسره.
والقراءة لما يجري الآن لا يمكن أن تكون صائبة، إن لم يتم ربطها بالمشروع الصهيوني والأمريكي الذي أريد منذ زمن ليس بالقصير فرضه على المنطقة بأسرها، والذي كان من المفترض أن تكون حرب يوليو/ تموز في لبنان عام 2006م مخاض ولادته، والمعبر عنه بالشرق الأوسط الجديد.
وللتذكير فإن تعبير ldquo;مخاض الولادة لشرق أوسط جديدrdquo; ليس من نسجنا أو اختراعنا، بل هو تعبير جرى تكراره على لسان وزير الدفاع الأمريكي السابق رامسفيلد إثر احتلال العراق عام 2003م، وأعيد تكرار ذلك أثناء حرب لبنان عام 2006م، على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس. والمشروع برمته يهدف إلى الاستعاضة بالبعد الاستراتيجي العسكري بالمناطق الحيوية، بديلاً عن الجغرافيا الطبيعية، ويهدف إلى تحقيق اندماج ldquo;إسرائيلrdquo; بالنظام العربي الرسمي، ليس بصيغة الشريك فحسب، ولكن بصيغة القاعدة العسكرية والاقتصادية والسياسية المتقدمة للمشروع الإمبريالي الغربي على الأرض العربية.
كان إيغال آلون، رئيس الوزراء ldquo;الإسرائيليrdquo; السابق، أول من لفت الانتباه، في أوائل السبعينات من القرن المنصرم، إلى إمكانية قيام سلطة فلسطينية، تتمتع بحكم ذاتي بالضفة الغربية وقطاع غزة، وترتبط بكونفيدرالية سياسية واقتصادية مع الأردن، وترتبط من جهة أخرى، على مختلف الصعد بالكيان الغاصب، وتكون معبراً برياً للتسلل الصهيوني، إلى القارات الثلاث: آسيا وأوروبا وإفريقيا، في مختلف الاتجاهات. وقد تزامن مشروع آلون بربط الكيان الغاصب بمشاريع تصدير الغاز العربي عن طريق الموانئ الفلسطينية، وبإيصال المياه عبر أنابيب تمتد من تركيا إلى الأراضي المحتلة. كما ارتبط ذلك أيضاً بالحديث عن تحقيق توسع ldquo;إسرائيليrdquo; في جنوب لبنان بهدف الوصول إلى مياه الليطاني، واستكمال مشروع تحويل مياه نهر الأردن إلى صحراء النقب، في القلب من فلسطين المحتلة.
لقد حالت حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973م، وتصاعد حركات المقاومة، واتخاذ القادة العرب قرارهم التاريخي باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وتماسك الموقف العربي دون تحقيق مشروع آلون آنف الذكر. ولم تكن فكرة قيام دولتين مستقلتين على أرض فلسطين التاريخية قد تبلورت بعد آنذاك لدى عرفات ورفاقه.

وخلال الحقبة التي امتدت منذ منتصف السبعينات حتى يومنا هذا، كان قطاع غزة متميزاً في مقاومته ومناهضته للاحتلال. وكان القطاع من وجهة نظر الحكومات ldquo;الإسرائيليةrdquo; المتعاقبة، بما يمثله من ثقل سكاني وحركة رفض وممانعة مستعصية، يشكل عبئاً ثقيلاً على سلطات الاحتلال، وأثناء محادثات كامب ديفيد بين القيادة المصرية والصهاينة، حاول رئيس الحكومة ldquo;الإسرائيليةrdquo; مناحيم بيجن إقناع الرئيس المصري، أنور السادات، بدمج موضوع القطاع بالمفاوضات، على اعتبار أن مصر كانت تدير القطاع حتى حرب يونيو/ حزيران عام 1967م. ورفض الرئيس السادات ضم القطاع للأراضي المصرية، خشية من تعقيدات ذلك على عملية التسوية السلمية برمتها، وأيضاً لأن الحكومة المصرية، برئاسة السادات نفسه، كانت من الذين دعموا قرار مؤتمر القمة العربي في الرباط، بمنح منظمة التحرير الفلسطينية وحدانية تمثيل الشعب الفلسطيني.
وبقي قطاع غزة مصدر إزعاج ومقاومة مستمرة لقوات الاحتلال الصهيوني. وكان عقد مؤتمر القمة العربية بعمان في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1987م، ولقاء الزعيم السوفييتي غورباتشوف والرئيس الأمريكي ريغان وتجاهلهما للقضية الفلسطينية، قد أزالا كل وهم لدى الفلسطينيين بإمكانية تحقيق أي تقدم على طريق إنجاز أهداف الشعب الفلسطيني في الحرية وتقرير المصير من خلال مؤتمرات القمة العربية أو المبادرات الدولية. وكانت غزة، ومخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين، بالذات، المكان الذي اندلعت منه انتفاضة أطفال الحجارة لتعم سريعاً مدن غزة، ولتنتقل كالهشيم للضفة الغربية، ابتداء بمخيم بلاطة قرب مدينة نابلس، ولتسجل صفحة ناصعة وفريدة في صفحات النضال الوطني الفلسطيني.
وأثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى كان قطاع غزة هو حجر الزاوية، وكان حسب وصف رئيس الوزراء الصهيوني السابق، اسحق رابين كابوساً، يقض مضاجع القادة الصهاينة، ويحرمهم الأمن والطمأنينة. وفي واحد من أكثر تصريحاته مرارة وإحباطاً تمنى ألا يستيقظ صباحاً من نومه إلا وقطاع غزة قد أزيل من الكرة الأرضية أو غرق في البحر.
ليس ذلك فحسب، بل إن إدارة رابين بادرت للاتصال بأحد قادة حركة فتح في غزة وعرضت عليه مشروع استلام منظمة التحرير لقطاع غزة، وتم تبليغ ذلك للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، ولحقتها رسائل أخرى، عبر سعيد كنعان أحد الشخصيات النابلسية، وأحمد الطيبي، عضو الكنيست ldquo;الإسرائيليrdquo; وأحد الشباب الذين لعبوا أدوراً بين المنظمة والحكومة ldquo;الإسرائيليةrdquo;، وعبد الوهاب الدراوشة عضو الكنيست ldquo;الإسرائيليrdquo;، وكانت تلك الرسالة الشفوية هي وما تبعها من رسائل تضمنت استعداد الكيان الصهيوني لتسليم غزة لمنظمة التحرير، هي المقدمة لمفاوضات أوسلو، التي بدأت في أواخر عام 1992م، وانتهت بتوقيع اتفاق غزة- أريحا أولاً في 17 أغسطس/ آب عام 1993م.
من هذه الخلاصة نصل إلى أن الهدف ldquo;الإسرائيليrdquo; من حرب الإبادة التي تشن بحق القطاع ليس إعادة احتلال القطاع، بل كسر إرادة الصمود والمقاومة تمهيداً لإعادة ترتيب الأوضاع السياسية في عموم المنطقة، انسجاماً مع مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي نظر له رئيس الحكومة ldquo;الإسرائيليةrdquo; السابق شيمون بيريز، والذي جرى تعديله لاحقاً، وقدم تحت مسمى ldquo;الشرق الأوسط الجديدrdquo;، الذي سيأخذ مكانه من خلال ldquo;الفوضى الخلاقةrdquo; وrdquo;مخاض الولادة الجديدةrdquo;، كما عبر عنه احتلال العراق وحرب لبنان. وانتهت حرب لبنان عام 2006م، من دون إجراء تعديلات جذرية فوق رقعة الشطرنج، ومن دون تحقيق مخاض الولادة لشرق أوسط جديد، ومن دون اكتمال الخريطة الجديدة للكيان الغاصب، وكانت كما تم توصيفها بحق من قبل بعض الزعماء الصهاينة، ldquo;حرباً لم تكتملrdquo;. وبالنسبة لرئيس الوزراء ldquo;الإسرائيليrdquo; المستقيل أولمرت ووزير دفاعه باراك نذير شؤم بنهاية مستقبلهما السياسي.
هذه النهاية السياسية ربما تكون في مقدمة الأسباب التي دفعت بأولمرت وقيادته الى القيام بالعدوان الجديد على قطاع غزة، والتعويض عن الهزيمة التي لحقت به في لبنان، وإعادة الاعتبار لحضوره السياسي. فقطاع غزة ليس كلبنان، إن من حيث الحجم، حيث لا مجال لدى الفلسطينيين للحركة أو المناورة، أو من حيث الكثافة السكانية، حيث إمكانية الخراب والدمار أوسع وأسرع، أو من حيث إمكانية الحصول على السلاح والعتاد، كون لبنان يحاذي الأراضي السورية من الشمال والشرق، والانتصار العسكري الصهيوني في حرب الإبادة فيها، من وجهة النظر ldquo;الإسرائيليةrdquo;، هو بحكم المؤكد. وفي كل الأحوال، فإنه إذا ما تم سحق حركة المقاومة، فإن أولمرت سيغادر سلطة الحكم بعد فترة قصيرة مكللاً بالغار، وإن كان معمداً بالدم ورائحة الموت، والخراب والدمار الذي عم كل زوايا القطاع، وكل شبر فيه.
لكن طائر الفينيق يطل كل مرة معلناً تحديه، وملقياً بقفازه في وجه جلاديه، مؤكداً أبدية حضوره، فألوف الأطنان من القنابل قد تقتلنا ولكنها بحول العلي القدير ستعجز عن إلحاق الهزيمة بنا. إنه تحد للوجود والإرادة للعرب جميعاً، فهل نرتقي إلى مستواه؟