عمار علي حسن
ما إن نشب العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة حتى انخرط المصريون في تنازع لفظي حول مقدمات الحرب ومجراها ونتائجها المنتظرة، ودور مصر في صناعة ما يحدث، وإمكانية أن يُعوّل عليها في إنهاء تلك المأساة الإنسانية. وهذا النوع من التنازع كان ظاهراً إلى درجة أن يضع بعض السمات الثقافية والحضارية للشخصية المصرية محل مساءلة، وموضع تدقيق ومراجعة، وفي مطلعها سمة التلاحم وقت الشدة.
فمن المعروف تاريخياً أن المصريين ينحون اختلافاتهم وخلافاتهم جانباً حين تتعرض بلادهم لخطر. وهذا الأمر تشرَّبته الشخصية القومية المصرية إلى درجة أنه صار يشكل جزءاً أساسياً من ملامحها، تتميز به عن أمم كثيرة، تزيدها الأخطار تشرذماً وتوزعاً على ولاءات عدة، ويبدأ كل طرف كان يتربص بالآخر يستغل الظرف الطارئ في تعزيز وضعه حيال الفرقاء، بل إن البعض يذهب في خصومته وغيه إلى حد التعاون مع العدو الخارجي ضد بني وطنه. وهناك مثالان بارزان في هذا الشأن، الأول قديم يتعلق بملوك الطوائف في الشام والأندلس الذين كان بعضهم يستعين بالعدو الخارجي ضد إخوانه. والثاني حديث يتجسد في تعاون بعض زعماء الحرب الأهلية اللبنانية مع الكيان الصهيوني.
وبخلاف الجنرال يعقوب الذي تعاون مع الاحتلال الفرنسي لمصر، وبعض زعماء الريف ووجهاء البلد الذين خانوا عرابي في معركة التل الكبير التي واجه فيها الجيش الإنجليزي الزاحف لاحتلال البلاد، لا توجد حالات بارزة على الخيانة طيلة تاريخ مصر المديد. بل كان المصريون يسارعون دوماً للالتفاف حول الحاكم حتى ولو كان منبوذاً حين يكون بصدد مواجهة العدوان الخارجي. فالبسطاء هم الذين شكلوا العصب الرئيسي لجيش قانصوه الغوري حين تخلى عنه عسكر المماليك، وزحفوا معه إلى مرج دابق لصد الجيش العثماني، فلما قتل وقفوا إلى جانب طومان باي حتى شنق. والفلاحون مثلوا الكتلة الأساسية الحية لجيش محمد علي باشا، فبنى بهم إمبراطورية صغيرة مرهوبة الجانب، تحالفت أوروبا عليها حتى أنهكتها، وساقت مصر لتكون قابلة للغزو فيما بعد.
وكثير من الشهادات والدراسات الاجتماعية الميدانية تدلل دوماً على تلاحم المصريين وقت الحروب، حيث تنخفض السرقات إلى أدنى حد لها، وتتعزز أشكال التراحم إلى أقصى مستوى لها، ويلتف الناس حول أولي الأمر، للدفاع عن البلد، وصيانة أمنه القومي. ولم يسجل التاريخ وقوع أعمال نهب وسلب كبيرة وواسعة في أوقات الأزمات سوى مرتين، الأولى أيام حكم quot;بيبي الثانيquot; الفرعوني والثانية خلال حكم المستنصر بالله الفاطمي، حيث جاع الناس حتى أكلوا أجساد الموتى، ولم يكن أمام الجوعى من خيار سوى مهاجمة قصور الأغنياء، والاستيلاء على ما فيها من مؤن.
ومن العوامل التي ساعدت على احتفاظ مصر بهذه السمة التاريخية أنها أقدم دولة مركزية في تاريخ الإنسانية، اعتاد أهلها أن يروها هكذا، وأن يحافظوا عليها كما هي طيلة آلاف السنين، ومن ثم يتنادون جميعاً في لحظة الخطر للذود عنها، حتى تستمر على هيئتها في خريطة العالم مهما تقدم الزمن.
ولا يزال الجسم الرئيسي في مصر محتفظاً بهذه الصفة، والتغير طرأ فقط على هوامش المجتمع، ويخص فئات بعينها، طفت على السطح في العقود الأخيرة، وانحازت إلى مصالحها الخاصة، وأهوائها الشخصية، ولم يعد يهمها الاحتفاظ بأي سمة للتماسك والتوحد.
ومع هذا لا يستطيع أحد أن ينكر أن هذه السمة تعرضت في العقود الأخيرة لتحديات جسام، نبتت في قلب الظروف التي طرأت وأدت إلى تفسخ اجتماعي متفاوت النسبة والدرجة، هو من دون شك معول هدم يضرب باستمرار سمة التوحد هذه في الأوقات الصعبة والمريرة التي تمر بها مصر. وهذا الضرب إن كان قد بدأ نقراً خفيفاً، فإنه يتصاعد بمرور الأيام ويصير طرقاً قوياً، يهز الأسماع، ومن ثم يصبح تأثيره قوياً على الكثير من الروح المصرية الفريدة، التي لا تقتصر فقط على التلاحم وقت الشدة، بل أيضاً القدرة الفائقة على صهر الغريب والوافد وهضمه وإعادة إنتاجه أو إخراجه في صيغة مصرية خالصة، وذلك في تواصل تاريخي فريد، لم يخف على كل ذي بصيرة نيرة وعقل فهيم.
والعوامل الأربعة التي طرأت على الحياة العامة في مصر، ونالت من هذه السمة تتمثل في الانفتاح الاقتصادي غير المدروس، وهجرة المصريين إلى الخارج في ظاهرة فريدة وجديدة على الإنسان المصري، وإبرام اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني، ثم اتساع الهوة بين السلطة والناس. فالانفتاح كان عشوائياً ومن دون ضوابط ولا روابط، إلى درجة أن الكاتب المعروف أحمد بهاء الدين وصفه بأنه quot;السداح مداحquot; وهو تعبير مصري يعني اختلاط الأمور وغلبة الفوضى عليها. ففي غمرة تراخي الدولة وتشجيع بعض أجنحتها لمسارات غرائزية ومسالك غير قانونية، انقلبت الأوضاع، وصعدت إلى قمة الهرم الاجتماعي طبقة طفيلية، تحوز المال وتعوزها الثقافة والتحضر والقيم الأخلاقية والروح الوطنية التي تنبع منها. ومثل هذا الوضع خلق حالة من الصراع الاجتماعي الخفي في سبيل حيازة الثروة بأي طريقة، لم يلبث أن ارتفع صوته، وصار يصم الآذان، ويرج أنماط الحياة رجاً.
وظهرت طبقة من رجال الأموال والأعمال ترتبط مصالحها بالخارج، إقليمياً ودولياً، بما في ذلك إسرائيل، التي أصبحت وجهة لبعض المستثمرين والتجار المصريين، وبات بعض رجال أعمالها شركاء لنظراء لهم في مصر. وفي ظل تصاعد نفوذ رجال الأعمال، وتعزز دورهم في صناعة القرار المصري واتخاذه، صار بوسعهم أن يضغطوا على الدولة، ويأخذوها في اتجاه تعزيز مصالحهم، وهي المسألة التي تمت ترجمتها بجلاء في إبرام صفقة تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل.
أما هجرة المصريين إلى الخارج بأعداد غزيرة، فهي ظاهرة جديدة على أرض الكنانة، التي اعتادت طيلة عمرها المديد أن تستقبل الوافدين والمهاجرين إليها، وتصبغهم بصبغتها، وتمنحهم روحها، فيصيروا منها، مهما كان عددهم، أو كانت جذورهم الثقافية والدينية والاجتماعية. لكن ابتداء من سبعينيات القرن العشرين بدأ المصريون أنفسهم يهاجرون سعياً وراء الرزق، إلى بلاد الخليج العربي التي ظهر فيها النفط بغزارة، وإلى الدول الغربية من أجل التعليم والعمل والحماية. وتشرب هؤلاء في الغربة ثقافة البلاد التي ذهبوا إليها، ولأن غربتهم قد طالت، فإن هذا التشرب كان عميقاً وشاملًا، وحين عادوا كانوا يحملون بين جوانحهم ما قد يجافي أو حتى يتصادم مع الثقافة المصرية العريقة والمتوارثة، وبدؤوا يدافعون عما حملوه وكأنه يشكل ثقافتهم الأصيلة. ومثل هذا التطور خدش روح الثقافة المتماسكة التي احتفظ بها المجتمع المصري دوماً.
وجاءت معاهدة السلام التي أبرمتها الحكومة المصرية مع الكيان الصهيوني عام 1979 لتضع حداً ولو مؤقتاً للثقافة الاجتماعية التي كانت سائدة أيام الحروب التي خاضتها مصر سواء ضد إسرائيل أو أيام النضال المدني والمسلح ضد الاحتلال البريطاني، ونزولاً إلى بقية المعارك التي دخلتها مصر، صغيرة كانت أو كبيرة. ولا يعني هذا أن أوقات السلام تأتي بالضرورة على الروح الإيجابية التي تسود الأمم أيام القتال، لو كان سلاماً يقوم على quot;توازن القوىquot; ويدرك من يعيشون فيه أن احتمال نشوب الحرب قائم دوماً. أما تحول السلام إلى استرخاء شديد فينال، بلا ريب، من روح الصمود، ويجرح سمة التماسك والتوحد. وبالطبع فإن المصريين جميعاً لم يصابوا بهذا الداء، فطيلة العقود الثلاثة التي أعقبت كامب ديفيد وهناك قطاعات عريضة بين النخب والعوام تتحدث عن امتعاضها من هذه المعاهدة، ويطالب البعض بالاستفتاء الشعبي عليها، بعد أن تمت من وراء ظهر الناس، ويعتقد كل المصريين ويؤمنون أن عدوهم الأول هو quot;إسرائيلquot;، وهذا طبيعي لبلد لا يخلو بيت واحد فيه من شهيد أو فقيد جراء صراعه ضد الكيان الصهيوني الغاصب.
أما اتساع الهوة بين السلطة والناس في مصر، فهي مسألة جلية ظاهرة، أدت إلى عدم ثقة الجماهير فيما تتخذه الحكومات المتعاقبة من قرارات سواء تعلقت بقضايا داخلية أم خارجية. وانعكس هذا في الأزمة الأخيرة.
التعليقات