غازي شعبان
laquo;مجدداً حرب للاشيءraquo; عنوان مقالة الصحافي الاسرائيلي توم ساغيف في صحيفة هآرتس. هذا العنوان ليس مجرد خبطة صحافية ارادها الكاتب ليميز نفسه عن هذا الأتون الملتهب من النار والدماء.
لا بد أن نقرّ لهذا الصحافي في الخندق المقابل بالصدق مع ذاته واحترامه لنفسه قبل مصارحته المسؤولة لشعبه في الجبهة التي ينتمي اليها. فالحرب على غزة من دون عنوان، من دون هدف صريح، وقيادة سياسية مفككة، متصارعة، كل فرد منها يجهد ليحقق اهدافه الشخصية، ويسجل نقاطا في الانتخابات المقبلة في شهر فبراير 2009. هذه القيادة السياسية الملطخة بالفساد والرشاوى والتحرش الجنسي الى ما هنالك من عناصر الفساد المختلفة التي تناولها الصحافي في هآرتس ايضاً دايفد لندو تحت عنوان laquo;اسرائيل على حافة أزمة أعصاب أم فقدان الاعصابraquo;، والتي تناول فيها أن المجتمع الإسرائيلي ضاق ذرعاً بسياسييه وقادته فابتعد عن السياسة وأهملها.
ولما كانت الحرب الخارجية هي مفتاح هروب المؤسسة العسكرية ndash; السياسية الفاسدة من واقعها، جاء عنوان توم ساغيف: laquo;مجدداً حرب للاشيءraquo;. فإسرائيل خاضت مجموعة معارك طويلة وقصيرة، سميت حروبا،ً ولكن الحرب لم تنتهِ، ولم تفرض إرادتها على الخندق العربي المقابل، على الرغم من الفساد المدقع فيه. وعلى الرغم أيضا من النتائج العسكرية التي حققتها إسرائيل، فإنها أجهضت بفعل تغييرات جذرية قامت في الخندق العربي المقابل. فهذه الحروب ماذا أعطت لإسرائيل سوى انتعاش حركة مقاومة شعبية شرسة في فلسطين ولبنان والعراق. فمنذ 30 عاماً بعد نكسة 1967 وإسرائيل بحالة مواجهة مع فصائل المقاومة الفلسطينية على اختلاف مشاربها واتجاهاتها حتى تمكنت حركة المقاومة الإسلامية حماس من احتلال موقعها وتعزيز مركزها كمنظمة سياسية عسكرية محتضنة من شعبها ومجتمعها العربي والاسلامي، وأضحت لاعباً أساسياً ومفاوضاً ملزماً للآخرين أياً كانوا عرباً، أوروبيين أم أميركيين وحتى الاسرائيليين لا بدّ لهم من التعامل مع حركة حماس من هذا الموقع المؤثر الفاعل من الصعب تجاوزه في اي عملية سلام وهمي أو حتى استسلام العاجز.
هذا التخبط في المؤسسة العسكرية ndash; السياسية الإسرائيلية تناولته بوضوح صحافة تل أبيب، وبالتالي التصريحات المتناقضة لإدارة الحرب وأهدافها. فوزير الدفاع باراك- رئيس اركان سابق ndash; ووزيرة الخارجية ليفني زعيمة حزب كاديما الطامحة لرئاسة الحكومة، وأولمرت رئيس الحكومة المستقيلة الذي آثر الصمت بعدما تعلم من دروس حرب لبنان، الى رئيس الأركان الجنرال أشكينازي الذي دفع بقواته الى ساحة الحرب من زاوية استعادة هيبة الجيش laquo;المقهورraquo; الذي لا يقهر بعد حرب تموز 2006 في جنوب لبنان من قبل المقاومة الإسلامية، وأن قوة الردع الإسرائيلية ما زالت فاعلة.
بالنسبة إلى باراك وزير الدفاع وزعيم حزب العمل، يقول إنه يريد من وراء الحرب laquo;تغيير أوراق اللعبةraquo; وعينه من ميدان القتال على منافسته وخصمه اللدود تسيبي ليفني، وهو يفهم مع حلفائه الأميركيين ومن يدور في محورهم، أن تغيير أوراق اللعبة، يكون بضرب قوة حماس كحركة مقاومة ظهيرها ايران، اي ان هذا التحالف يريد هزيمة ايران، وكأن الحرس الثوري الايراني هو الذي يقاتل وتقتل نساؤه واطفاله في غزة، وأن شعب غزة ليس بشعب عربي مسلم وlaquo;الحمدللهraquo;. فمن له حسابات مع إيران، يخشى مواجهتها مباشرة، فيضرب الخواصر الطرية من وجهة نظره في فلسطين حماس والجهاد، ولبنان، المقاومة الاسلامية.
laquo;مجدداً حرب للاشيءraquo; كون المقاومة الشعبية لا تهزم، وهذا من طبيعة النشاط المقاوم، بل تستفيد من معاركها ونتائجها وتعرفها إلى عدوها في ميدان القتال، لتعيد تنظيم صفوفها وتكتيكاتها لتخرج خلاياها أشد بأساً وصلابة. إنه قانون الحروب اللامتكافئة، المحدودة في عصرنا اليوم. فماذا يمكن أن تحقق الضربة العسكرية الاسرائيلية وlaquo;الارهاب الجويraquo;، كما أطلق على هذه الحرب الجوية المدمرة صحافي إسرائيلي في الجبهة المقابلة. فهذا laquo;الإرهاب الجويraquo; الآتي من السماء كل ما يستطيع انتاجه هو قتل مدنيين ودمار وتدمير للحجر، ولكنه يزرع مكانه شتلة مقاوم تصبح فيما بعد سنديانة وشجرة زيتون، ولغماً متفجراً.
أما الاحاديث الممجوجة المعلوكة عن ضرب البنية التحتية لحركة المقاومة، أية مقاومة التي يتغنى بها جنرالات أشكينازي؟ فما هي إلا أمان بعيدة المنال، يطلقها الجهلة او المتجاهلون لحركة الشعوب. فالمقاومة لا تضرب بنيتها التحتية كونها خلايا ناشطة في ضمير الشعوب المقهورة والمحتلة.. إنها عقيدة اعتزاز بالكرامة وافتخار واستقواء بالوطن وإرادته الحرة.
واذا كانت هذه الحرب المتجددة للاشيء وكان المحتشدون من خلفها لكل منهم أهدافه، ستؤدي الى خلق وقائع على الأرض يمكن توظيفها في نتائج سياسية هي مجرد وهم وخيال، لأن المقاومة ستظل ممسكة بأوراق اللعبة وتطور وسائلها وتشد قبضتها. فمن يأتي على الدبابة الاسرائيلية، أو يمشي ويتلطى بها، أعجز من أن يحمل القلم ليوقع، ومن هو ليوقع؟ وما هي قيمة توقيعه؟.. لأنه سيكون أحد المنفيين، كما يصفه تسفي بارنبيل في هآرتس. ماذا يستطيع هؤلاء المنفيون أن يقدموا لهذا التحالف القائم اليوم فوق بحر من الدماء في غزة وتحت أفق مشتعل بالنار على درب فلسطين إلى القدس الشريف، أولى القبلتين وثالث الحرمين حيث صخرة المعراج المباركة التي عرج منها سيدنا ونبينا محمد (صلعم) الى السماء بإذن ربه.
اسرائيل في هذه الحرب اللامتكافئة قد تكون قادرة على تحقيق واقع على الأرض، لكنها أعجز من تستثمره. فهي إن اوقفت، أو أبعدت صواريخ القسام عن مستعمراتها، فلا يعني أنها أنهت المقاومة. وإذ توصلت مع تحالفها في حرب لبنان على فرض الهدوء على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة، بموجب القرار الدولي 1701، فإنها لم تتوصل بعد الى اتفاق لوقف اطلاق النار مع المقاومة اللبنانية، إنما وافقت على وقف العمليات الحربية.. وهذا ما تسعى اليه ليفني في غزة: وقف العمليات الحربية. والقرار الدولي المنتظر المستجد المتجدد كالحرب في لعبة موازين القوى والتحالفات لا يوصل الى خطوة على درب السلام الاستسلامي يأتي به العجزة عن حمل السلاح.
ما هو ابعد من غزة، هي الجهود المبذولة لتكوين حالة مستجدة في مشروعات اميركية ndash; اسرائيلية حليفة على خريطة الشرق الاوسط. فاسرائيل التي تهرب من أزماتها الداخلية الى الحروب الخارجية، لتخلق واقعاً جديداً على الأرض، لم تعد سياسة ايجابية. فالحرب الخاطفة السريعة بتدمير قوى العدو وشل قدراته العسكرية، خرجت من المعادلة. فالحروب اللامتكافئة التي تخوضها المقاومة الشعبية، لم تعد تسمح بالنزهة التي يتغنى بها الجيش الإسرائيلي الى الأرض العربية المتاخمة للوطن المحتل، بل باتت ملطخة بدماء جنوده. فكلما اشتد الضغط العسكري المفرط من آلة الحرب الاسرائيلية، ازدادت المقاومة صلابة وشراسة على الطرف الآخر من المعادلة، مترافقة مع تطور وسائل الصراع وأدواته.
ان السعي الى مقولة السلام العادل والشامل بات سعياً نحو المعجزة في عصر انتهت فيه المعجزات منذ زمن. فهذه المقولة باتت مجرد يافطة سياسية مرفوعة في مواجهة الآخر. والحرب لا تنهي صراعاً عربياً ndash; صهيونياً، ولا تفرض استسلاماً أو تصنع سلاماً. الحرب تولد الحرب، وهذا قانون الحرب. واليوم يخوض العرب.. شعوب العرب.. معركة غزة على أنها تحول نوعي في الصراع مع العدو الصهيوني في حرب طويلة قد تكون بلا نهاية على درب القدس الشريف.
لعلّ التحالف القائم اليوم في حرب غزة أن يأخذ العبرة من خبير استراتيجي بريطاني هو الجنرال روبرت سميث، نائب القائد الأعلى لقوات حلف الناتو في أوروبا العام 1998 وخاض حرب الخليج الثانية، حيث يقول في كتابه laquo;جدوى القوة: فن الحرب في العالم المعاصرraquo; الصادر في لندن laquo;... إن استخدام القوة العسكرية وسيلة للاكراه والتسلط لم يعد يجدي نفعاً، إذ غالباً ما تفشل قوة الإكراه العسكرية في حلّ الأزمات التي يواجهها العالم، كما يأمل السياسيون لها أن تحل... الأمر الذي يفسر عدم جدواها في تسوية الأزمات وأثمانها الباهظة...raquo;.
التعليقات