غازي العريضي
لإسرائيل تاريخ واحد: اغتصاب، إرهاب، قتل، إجرام، مجازر، دمار، خراب، كره، حقد، غطرسة، وعنجهية، وتتكرر فصول هذا التاريخ من وقت لآخر. وتتطور رواياته وشخصياته وأدواته وأساليبه وأفكاره وأسلحته ووسائله.
اليوم نتذكر عام 1982، اجتياح للجنوب اللبناني خلال ساعات، وتغطية دولية شاملة، كان الجميع على علم بما يجري، البعض نبّه. والبعض الآخر أبلغ بوضوح مسؤولين وسياسيين بما سيجري. وما هي حدود الاجتياح البري ونتائج الاجتياح السياسي. كثيرون لم يصدقوا، لكن ما جرى لاحقاً أكد المعلومات. الآلاف استشهدوا بقذائف القنابل الأميركية الذكية وغير الذكية التي استخدمها الجيش الإسرائيلي. أصوات الرفض والغضب والمظاهرات عمت مختلف المدن في معظم دول العالم، لكن ذلك لم يغير شيئاً. استشهد من استشهد، ودمر ما دمر، ونفذت إسرائيل ما أرادته حتى تجاوزت حدود الاتفاق، ووصل آريل شارون بجيشه إلى بيروت، وهنا بدأ العد العكسي، بعد معارك في الجبل والبقاع على حدود بلدة عين زحلتا الشوفية حيث أوقف الزحف الإسرائيلي، وحدود السلطان يعقوب وعلى مقربة من طريق الشام والحدود السورية حيث كانت معارك بطولية مع الإسرائيليين. الغاية آنذاك: إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من المنطقة الجنوبية، وضمان عدم إطلاق الصواريخ منها باتجاه إسرائيل وعدم انطلاق العمليات الفدائية منها. والنتيجة السياسية اللبنانية تركيب سلطة موالية لإسرائيل.
خرجت منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت بعد صمود أسطوري لبيروت وأهلها والفلسطينيين والقوات السورية التي كانت لا تزال هناك. وانتخب بشير الجميل رئيساً للجمهورية، ثم اغتيل. ثم كانت مجازر صبرا وشاتيلا. وسقطت صدقية القوات المتعددة الجنسيات التي جاءت لحماية المخيمات. وفي تلك المرحلة أميركا عرابة الاجتياح وحامية الإرهاب الإسرائيلي في مجلس الأمن وعلى الأرض وبالمال والسلاح، وأعطت كل الفرص لإسرائيل لإتمام عملياتها.
مع الوقت لم يتمكن الاحتلال من البقاء. تمت مواجهته بالرصاص من قلب بيروت وبالزيت المغلي، والعمليات الاستشهادية في الجنوب، وتوالت الضربات ضده حتى خرج مهزوماً عام 2000 بعد سلسلة من الاجتياحات والمجازر التي ارتكبها لأن المقاومة تسلحت بحقها في الدفاع عن أرضها وبإيمانها بهذا الحق وبإرادة رجالها الذين سجلوا بطولات وانتصارات تاريخية.
عام 2006 عاودت إسرائيل العدوان، وكانت أميركا إلى جانبها. تعطيها الوقت لتحقيق نتائج إيجابية. رفضت أميركا تبني فكرة فتح الممرات الإنسانية. ووضعت شروطاً تخدم إسرائيل، وأطالت أمد الحرب لتساعد إسرائيل، ورفضت الاقتراحات العربية وأجهضت قرارات في مجلس الأمن. وكانت تظاهرات تعم العالم، وفي النهاية تم التوصل إلى القرار 1701. خرجت إسرائيل مهزومة، وإنْ كانت ادعت أنها خلقت منطقة آمنة، وها هي تتحدث بقلق عن المخاوف التي يمكن أن تطل من هذه المنطقة. لاسيما أن المقاومة خرجت أقوى، وباتت تملك من الصواريخ أعداداً ونوعيات تفوق بكثير ما كان لديها في السابق!
اليوم، إسرائيل تجتاح غزة ترتكب المجازر بحق الإنسانية بحق الأطفال والنساء والشيوخ. مئات الشهداء والجرحى، والهدف من الاجتياح طرد quot;حماسquot; من منطقة لمنعها من تكرار إطلاق الصواريخ وردعها عن امتلاك صواريخ أكثر تطوراً، ولإعادة تركيب السلطة مجدداً في غزة وبشراكة بين السلطة الوطنية وquot;حماسquot; وإعطاء دور أساسي لمصر ووجود قوات دولية أو أي ضمانات لتحقيق هذه الأهداف.
أميركا تلعب اللعبة ذاتها: تزود إسرائيل بكل أنواع الأسلحة، والجيش الإسرائيلي يزهو ويتفنن في استخدام وتجريب هذه الأسلحة بدماء الأطفال الفلسطينيين في المساجد والمستشفيات والمدارس التابعة للأونروا بتدمير كل البنى التحتية في غزة. وتحمي أميركا إسرائيل في مجلس الأمن لمنع إدانتها أو اتخاذ قرار ما لا يتلاءم مع شروطها. والعالم يتصرف وكأنه على علم مسبق بكل ما جرى -دون توقع هذا الحجم من الخسائر المدنية ربما ودون توقع طول المدة الزمنية للحرب- والنتيجة حتى الآن: الاستمرار في إطلاق الصواريخ. وظهور صواريخ حديثة وقتال شرس على الأرض والأمور في سباق بين العمل العسكري والميداني والعمل السياسي الدبلوماسي، ولن تكون النتيجة معاكسة لما كانت عليه في كل الجولات السابقة حتى ولو صدر قرار يوحي بأن إسرائيل فرضت شروطها، وهذا ما يسعى إليه كثيرون في الغرب لإنقاذ ماء وجه إسرائيل والتزام هؤلاء معها!
في النهاية لن يكون حل يسقط quot;حماسquot;! وأي خطة وأي مراقبين لن يمنعوا الشعب الفلسطيني من امتلاك عناصر القوة التي تستند إلى عنصر القوة الأساس الحق، والإيمان، والإرادة والإصرار على مزيد من النضال والتحدي.
هذه الحرب ستخرج الفلسطينيين أكثر حقداً وأكثر إصراراً على القتال والتمسك بالحقوق، وستنتج واقعاً سياسياً مختلفاً في فلسطين وإسرائيل وفي المنطقة كلها. ولن يتمكن أحد من منع الفلسطينيين من ابتكار الوسائل والأساليب لحماية أنفسهم ما دام العالم عاجزاً عن توفير الحماية لهم. وعن ردع إسرائيل عن الاستمرار في ارتكاب المجازر.
أقول هذا استناداً إلى كل التجارب السابقة المعروفة، والتي ذكرنا بعضها سابقاً. وبالرغم من المواقف الدولية والعربية، التي لم تخرج عما هو متوقع، فالسياسة مصالح وكل نظام ودولة يسعى إلى تحقيق مصالحه سواء بالظهور الدبلوماسي في الحركة أو الحل أو بالموقف السياسي، أو بالإعلام أو ما شابه، لكن في النهاية بدا الشعب الفلسطيني متروكاً إلا من صيحات الجماهير العربية والإسلامية، وفي بعض عواصم العالم المهمة، ولكن غير القادرة على التأثير فعلياً في مجرى الأمور.
الدم الفلسطيني أحرج العالم، خاصة أن مواقف رموز وممثلي الأمم المتحدة كانت مشينة في بداية العدوان ولا مواقف الدول الكبرى كل الدول الكبرى، التي كانت مواقفها بنسب متفاوتة تغطية للعدوان، ولو تبدل بعضها في الأيام الأخيرة لجهة استنكار ورفض المجازر الإسرائيلية.
سيكون حل، وتكون هدنة وتهدئة لزمن محدد، يعود فيها كل طرف إلى لملمة أوضاعه وتقييمها. وسيعود الصراع السياسي إلى الداخل الفلسطيني وستحاول إسرائيل إحكام حصار من نوع آخر مستقوية بما ستؤول إليه النتائج السياسية والدبلوماسية.
لكن هذا سيترك انعكاساً سلبياً على الواقع العربي، سيعود الخلاف أقوى مما هو عليه. وبعد وقت سيعود استدراج العروض لتفاوض مباشر أو غير مباشر مع إسرائيل، بعد استحقاقات تنصيب الرئيس الأميركي الجديد أوباما والانتخابات الإسرائيلية المقبلة والانتخابات الفلسطينية، المهم في كل ذلك فلسطين، وما سيجري داخلها. والمهم هو الحفاظ على الوحدة الفلسطينية بالرغم من كل ما جرى، والتوصل إلى اتفاق فلسطيني- فلسطيني يحفظ الحد الأدنى من المصالح الفلسطينية، كي لا تنتقل إسرائيل من موقع المعتز بإنجازاتها التدميرية في غزة إلى موقع المعتز بالتفرج على التدمير الذاتي الداخلي من خلال اقتتال فلسطيني- فلسطيني أو خلافات فلسطينية- فلسطينية بنتيجة تقييم المواقف من الحرب الأخيرة ونتائجها.
هذا أخطر ما يمكن أن تواجهه الساحة الفلسطينية، ومن الضروري تجنبه وتفادي الوقوع في فخه ليثبت الفلسطينيون أنهم خرجوا بالفعل أقوى مما كانوا عليه، وأنهم قادرون على الصمود حتى تحقيق مطالبهم المشروعة. فلن يكون حل وأمن وسلام واستقرار من دونها. تحية إلى غزة وأهلها وشهدائها.
التعليقات